حلب الحزينة أبشري
مشاهداتي في سورية
م. عبد الله زيزان
باحث في مركز أمية للبحوث والدراسات الاستراتيجية
الأسواق مزدحمة، أصوات الباعة تعانق السماء، السيارات تملؤ الشوارع، الحياة طبيعية، هكذا يخيل للمرء للوهلة الأولى حين يدخل مدينة حلب، لكنه سرعان ما يستفيق من خيالاته تلك حين يصطدم بتلك الأبنية المدمرة، إنه حي "جبل بدرو" أو بعبارة أدق، إنه ما تبقى من هذا الحي، الذي أصابه صاروخ "سكود" ليحيل الأحياء فيه إلى أموات..
حالة من التناقض تنتاب المرء حين ينظر يمنة فيجد آثار الدمار على هذا الحي، وحين ينظر يسرة فيجد الأسواق عامرة والحياة كأنها طبيعية...
خرجت من حالة التناقض تلك لنكمل مشوارنا إلى داخل المدينة، والحقيقة أنني حين قررت أن أزور "مسقط رأسي" الذي ولدت خارجه وحرمت من رؤيته كما آلاف غيري، كنت أتخيل أن أرى مدينة للأشباح، فالقصف لم يهدأ يوماً واحداً، وزاد عليه دخول صواريخ "سكود" شديدة التدمير على خط المواجهة، مما يجعل ظروف العيش في هذه المدينة شبه مستحيلة، إلا أنّ الواقع كان خلاف ذلك، فبعد أن ترك الحلبيون بيوتهم لأسابيع قليلة، لم يطيقوا البعد عن بلدهم وعن بيوتهم، فعادوا يتحدّون جبروت الطغاة وظلم المحتلين، ينامون على أصوات القذائف والصواريخ، يستغيثون بالله مع كل انفجار يسمعونه مرددين "يا لطيف"، فالله اللطيف وحده من يخفف من وقع هذه الانفجارات عليهم...
سهرنا ليلتنا الأولى في مدينة حلب وسط أصوات الانفجارات، لتأتي بنت أحد الإخوة والتي لم تتجاوز الأربع سنوات لتقاطعنا مع صوت كل قذيفة لتشرح لنا هذه الأصوات، فتقول "هي طالعة" وبعد قليل "هي نازلة"، "هي صاروخ" "هي قذيفة"، فتعجبت كل العجب لهذا الشعب، فحتى الأطفال تعايشوا مع هذه الظروف التي لا يحتملها الرجال في الأوضاع الطبيعية..
أكملنا سهرنا على ضوء خافت ضعيف يعمل بالبطاريات، فالكهرباء باتت نوعاً من الرفاهية الزائدة في سورية، وما لبثنا قليلاً حتى تزايدت أصوات الانفجارات، فتبادر إلى ذهني الدعاء: "اللهم حوالينا ولا علينا"، لكني سرعان ما تداركت الأمر وتراجعت عن دعائي، فحوالينا هم مدنيون، هم أطفال ونساء وشيوخ، فحيثما سقطت القذائف ارتفع الشهداء، فأكملت ليلتي أدعو الله أن يفرج عن سورية كربتها هذه لتخرج أكثر قوة من ذي قبل...
استيقظنا صباحاً عازمين ترك تلك المنطقة من مدينة حلب والانتقال لمكان آخر، فإذا بقذيفة تسقط بالمبنى المقابل لمكان سكننا، كان صوتاً مرعباً، فهذه أقرب قذيفة تسقط بالنسبة إلي، هرعت إلى الأسفل لعلّي أساعد من في ذلك المبنى، لكني تفاجأت بأن المئات قد تحلقوا حول ذلك المبنى، وبعد دقائق معدودة كانت سيارة الإسعاف التابعة للجيش الحر قد وصلت المكان، مع بدء خروج أهل البناية المستهدفة، تفقدوا الجميع، وبحمد الله، لم يكن هناك أي شهيد أو جريح، فقفلت سيارة الإسعاف عائدة، وعاد كل مواطن إلى عمله الطبيعي، أما صاحب ذلك المبنى فقد طلب من أصدقائه الاستعجال بإحضار البنّاء لترميم ما هدمته القذيفة، فالنهار في أوله، وهو يريد أن يعود بنفس اليوم إلى ذات المبنى، في مشهد يظهر أعلى درجات الإرادة على الحياة...
وإذا أردنا أن نضع إرادة الحياة على كفة فإنه في الكفة الأخرى تجد الحزن والحنق في وجوه الحلبيين، كيف لا وفي كل بيت شهيد أو جريح أو نازح، وبمزج الحزن مع إرادة الحياة فإن المنتج الجديد يظهر قدراً كبيراً من التفاؤل، تفاؤل في المستقبل القريب والبعيد، فالمستقبل القريب ينذر بانتصار الثورة وزوال الظالمين، والمستقبل البعيد يرسم صورة سورية المستقبل التي ستبنى بأيد وطنية وعلى أساس الحرية والعدالة الاجتماعية...
خرجت من حلب وقلبي لم يخرج منها، فحين كنت أحلم بزيارة وطني الذي لم أره منذ رأت عيناي النور، لم أكن أتوقع أن أراه بهذا الحجم من الدمار والخراب والدماء، لكنها إرادة الله وحكمته، ولعل في ذلك فرصة لإعادة بناء سورية بأسس أخلاقية وعمرانية جديدة...
خرجت من حلب ولساني يردد:
حلب الحزينة أبشري قد ران نصرك فاصبري