الأسير المقدسي فهمي عبيدة مشاهرة
الأسير المقدسي فهمي عبيدة مشاهرة
د.
رمضان
عمر
رئيس رابطة أدباء بيت المقدس / فلسطين
يبذر رحم الصبر ببذور التضحية ليولد جيل القدس المجاهد
تشكلت الحياة على الارض بإرادة الله، جل في علاه، ف﴿إنَّما أمرُهُ إذا أرادَ شيئًا أن يقولَ لَهُ كُنْ فَيَكون﴾؛ كذا وجد ادم، وكذا حملت مريم،ف(لله ملك السماوات والأرض يخلق ما يشاء، يهب لمن يشاء إناثا ويهب لمن يشاء الذكور،
أو يزوجهم ذكرانا وإناثا ويجعل من يشاء عقيما إنه عليم قدير* الشوري:50,49)
وكما أن الارادة الربانية توجد مفردات البشر؛ فإنها تنتج جماعات الشعوب، فينصر الله من يشاء، ويهلك من يشاء، وله في ذلك ناموس تجلت معالمه في غير آية:(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ)Kلكن فقه الاستجابة لأمر الله والاعتماد عليه مع خالص العمل الصادق، والإرادة الفاعلة يأتي بالعجب العجاب.
وقد فقه الفلسطينيون هذا المبدأ الرباني؛ فتحدوا إرادة السجان، وحطموا قيوده البائسة؛ فانتصر الدم على السيف، وولدت الارادة من رحم الظلمة، ومن وراء القضبان، ثم أينعت صخور السجن الصلفة ورودا،و أسرجت أحصنة الأمل مجدا، وسقت جذور الفضيلة الفلسطينية المتجذرة في أعماق كنعان الارض الطاهرة عزة، فارتوت أمة الحبيب المتشربة من نبع النبوة عبر رحلة النسب اليعربي الطاهر كرما وتميزا، لتعلن عن قريب:بأن الفرج قريب، وأن النصر صبر ساعة، وأن العاقبة للمتقين.
لقد أشعل فتيل التجديد الأول في قهر إرادة السجان السجينُ المجاهد عمار الزبن، وهو الأسير الأول الذي هرب نطفة من داخل الأسر، شجعت الأسرى، وهيأت الشارع لتقبل هكذا فكرة،، ثم إن المجتمع الفلسطيني قد احتضن الفكرة وشجع حدوثها، والآن توجد أربعة حالات حمل جديدة تنتظر أطفالاً، آباؤهم داخل الأسر.
ثم أصبحت الفكرة إرادة ممنهجة، لتتحول إلى مشروع حياة، وخرق " ديمغرافي" لجدر السجن، وكسر آمال السجانين، فعادت دماء السجناء الطاهرة تجري في عروق النساء الصابرات؛ لينبت الصبر ورد الحياة، وتجدد الولادة في مشروع التحدي.
وها نحن اليوم نقف على تفاصيل ملحمة بطولية جديدة، تحفر بنودها في أروقة التاريخ، لتسجل بماء الصبر، وحبر الإرادة معجزة النصر،نصر جديد لمجاهد على جمع من السجانين، فتحلق الإرادة الصابرة مقتحمة أسوار السجن، ثم ترتد خارجة مزلزلة أوكار القهر؛ لترسم في رحم "أم عبيدة" أمل الاتصال بمشروع حياة كادت سنين القهر أن تطمسه؛لقد نجح الأسير المقدسي فهمي عبيدة رمضان مشاهرة(33) عاماً من مدينة القدس، من تهريب نطفة أدت إلى نجاح عملية حمل زوجته أم عبيدة التي تنتظر مولودها الجديد بأمل وفرحة وسرور.
إنها معركة من نوع جديد، تتسلل إلى أعماق العنفوان والصلف الصهيوني بذور التحدي والأمل، والإيمان الصادق -بعون الله- فتهتز شجرة الحياة، فتساقط رطب الديمومة البشرية؛ فيولد مجاهد، خليفة،فينقطع سبيل المجرمين.
ما أحيلاها من إرادة تعبق بعرق سندسي، يحمل، مع بذور التعب، روائح النصر!!! فهنيئا لأمة المجد التي لا تنام إلا على وفير السؤدد، ولا تعبأ بشوك القنافذ الا بجز رؤوس الجلادين وارغامهم على دفع الثمن غاليا حدث هذا غير مرة، و(شاليط ) واحد من الأدلة التي لن تنتهي.
وفي زحمة الغيات، والناس سكارى وما عهم بسكارى ، ينتبه المجاهدون الصادقون ، فمع عمليات خطف الجنود لتبادلهم مع الأسر، هناك عمليات خلق وتجديد تعلن عن عبقرية مستحدثة في حرب الإرادة ، إنها الولادة عن بعد ، مصطلح لم يولد إلا في فلسطين ففلسطينن صانعة كل مجد حينما يعز المجد.
ولكن قصة الولادة والحمل لم تكن طرفة أو ترفا، بل كانت فصلا من فصول رواية تجسد معاناة هذا الشعب، وتكشف عن جحيم ظلم الصهاينة، وتندب حظ أمة تقاعست عن نصرة الحق، ومجتمع دولي تنكر للفضيلة، وآثر أن يتساوق مع منطق القوة والجبروت، فهوت العدالة، وانكسرت شوكة ميزان العدل.
ولما لم يجد الفلسطيني الاسير إلا إرادته الصابرة شحذ حدها واستلها من غمدها، وغدا بها متحديا ففتح بها كل باب مغلق وهدم كل حصن ظالم، وقد استجابت له رحم العظيم الجبار؛فكان النصر حليفه في غير موقعة، والله ناصر جنده، ولكن اكثر الاغبياء لا يعقلون.
تقول زوجة الأسير مشاهرة، أم عبيدة، والتي تركها فهمي حاملاً في شهرها الثامن بعبيدة، الذي جاء على الدنيا، دون رؤية أبيه، وتاركاً ابنته زينة التي كانت تبلغ من العمر عامين: "كانت حياتنا تمر بهدوء وسكينة ولا يوجد أي عقبات أو تشويش، إلى اللحظة التي جاء فيها عناصر من جيش الاحتلال لمكان عمل فهمي في القدس، وأخبروه أن يذهب لمقابلة المخابرات للضرورة، لتتحول فيما بعد المقابلة إلى أمر باعتقال".هكذا بدات قصة الاغتراب في حياة كادت ان تجدب في بلد يعاني استئصالا وتصحرا، عبر سياسة التهجير والهدم."
ثم يدخل فهمي رحلة العذاب والتغييب؛ فتفقد العائلة الاتصال به، ليتم إبلاغنهم فيما بعد أنه معتقل لدى السلطات ال(اسرائيلية)، وعندها كان الألم والفاجعة لهول الأمر.
وبصبر جميل، ولهجة قوية تدل على أن المال ليس الأهم في الحياة، وإنما سلامة الأحبة هي الأغلى، تقول أم عبيدة:أن جنود الاحتلال جاؤوا إليهم ليلة عيد الأضحى في عام 2004 وأخبروهم بضرورة إخلاء المبنى الذي يضم بيت الأهل وشقيق فهمي الآخر، لأنهم يريدون تفتيشه،(وهم في الواقع يريدون هدمه)، دون السماح لهم بأخذ أي المستلزمات منه.
وقد كان وقع خبر هدم المبنى أليماً على فهمي في سجنه، إلا أنه تحلى بالصبر، وكان جميع من حوله يؤنسه بما جرى.
هذه هي القدس، وهؤلاء هم أبناؤها مشاريع تضحية، وبذور تذكير لأمة نائمة، وخز في خاصرة مكلومة، لكنهم أكثر استيقاظا من غيرهم، فرغم القهر والإرهاب والتشريد والآهات والألم، ورغم بوارج التعتيم والتهجير و والنفي الهدم، ستبقى القدس شامخة، ويبقى ريحها عبقا، وطيفها الشامي أغنية، ولحنا لكل فم ويبقى الحرم يعربيا، ويبقى أهلها مقدسيون أوصياء عليها؛ فالقدس مدينة لا تقبل التقسيم؛ ولن يرحل عنها أهلها الصابرون .. وستبقى ساحة لجند الشام، ومعبرا للأمم التي رضي الله عنها ، لن تسقط قلاع القدس، ولن يبتر مد اهلها، فقد قرر المقدسيون زرع حقول النساء الصابرات ببذور المجاهدين المضحين لينتجوا جيل النصر المنشود بإذن الله.
كانت قصة المعاناة لهذا البطل المقدسي ولعائلته اكبر من تفاصيل الكتابة، وأعمق من جراح المأساة المسطرة بقلم شاعر، فليست النائحة كالثكلى؛ تشير أم عبيدة أن الحكم على زوجها جاء بعد ثلاثة أعوام من اعتقاله، وكان السجن 20 مؤبداً، وهو الخبر المزعج الأليم القاسي على كل العائلة، والأمر الأصعب على الأبناء، الذين لا يعرفون معنى كل ذلك بعد، ومضت أم عبيدة صابرة محتسبة غير آبهة لما يفعله الاحتلال، الذي يستقي أحكامه من بحر الكذب الذي لا ينفد لديه أبداً.
لقد أراد الصهاينة المجرمون أن يكسروا ارادة هذا البطل عبر حكم مجحف، يحرمه من رؤية ابناءه، والعيش معهم؛ فبدأ الابنان زينة وعبيدة، يكبران يوماً بعد يوم بعيدين عن والدهما، محرومين من لقائه والاجتماع به في العيد، وفي شتى المناسبات، وحتى في فرحة شهاداتهم المدرسية، التي لا يلقون بها بالاً رغم تفوقهم، بسبب غياب والدهم عنهم.
لكن الامل الذي زرعه فهمي في قلب الزوجة والأهل لا مثيل له…. وعزيمته التي تتجدد هناك من وراء القضبان.. تشع نوراً بقرب فجر التحرر… فذكرت أم عبيدة أن زوجها استطاع أن يحصل على شهادة الثانوي العامة داخل الأسر، وأن يلتحق بالجامعة الإسلامية ويدرس تخصص خدمة اجتماعية.
كما أن فهمي يتقن اللغة العبرية، ويحفظ القرآن، وحاصل على شهادة قراءة حفص بن عاصم، عدا عن امتلاكه لمواهب رياضية وفنية رائعة، مكنته من التغلب، على ألم السجن ومعاناته.
من رحم الوجع المؤلم تولد بشائر النصر،وبالارادة العابرة للمستحيل يحطم الصلف المستبد، وبإذن الله تنقشع الصخرة وتفتح كوة في الجدار، ترسل عبرها زفات الحرية؛ ليبدا مشروع الكنس والتطهير، ثم مشروع الزرع والتعمير، لفلسطين الأبية وإن غدا لناظره قريب؛ فلا يأس مع الإرادة، ولا مستحيل مع الايمان، فرج الله كرب فهمي وكرب إخوانه، والله خير حافظا وهو أرحم الراحمين.