في رحيل "السنونو" الفلسطيني... بائع صحيفة القدس!!
في رحيل "السنونو" الفلسطيني...
بائع صحيفة القدس!!
أ.د يوسف ذياب عواد
مدير فرع جامعة القدس المفتوحة-نابلس
منذ فترة بعيدة، حين كانت صحيفة القدس ملاذاً فلسطينياً، وربما وحيداً لمعرفة ما تيسرَ من أخبار سياسية أو اجتماعية أو اقتصادية؛ سياسية تخصّ القضية الفلسطينية عبر مراحل المقاومة في لبنان وفلسطين، كان أبو خليل عبد الفتاح أبو عيشة من نابلس يبيع صحيفة القدس، في كل صباح، كان يطالعنا بصوته الجهوريّ بأبرز عناوين تلك الصحيفة ..!! ويحمل بين يديه عشرات منها، وأحياناً ينادي بخبر بارز أمسى الناس عليه وأصبحوا متشوقين لمعرفة ما جدّ فيه!! كلّ ذلك وهو يسير في شوارع نابلس وأزقّتها العتيقة، فيتهافتُ الناس القرّاء والمهتمون على شراء نسخٍ منها. ولم نكنْ نعلمُ حجم الأثر الذي يتركه أبو خليل في نفوس الناس في الأسواق، ولا ما فيه من دلالات.. والشيء الذي كنّا نعتقده هو أنّ هذا الرجل البسيط في مظهره وصوته كان مندفعاً للبيع نتيجة للفقر أو العَوَز.. وأنّ أوتاره الصوتية ما كانت تشدو لولا هذا العَوز ! وأنّ تهافت الناس على شراء صحيفته لم يكن إلاّ شفقة وعطفاً على حاله الصعبة!! كنّا نعتقدُ ذلك فقط...ولم نكن نعلم أن هذا العَوز وذاك الفقر كان دائماً مُقْترناً بعزة وكبرياء! كانت العزّة ماثلةً في بساطة هذا الرجل الأشيب، ذي الهيئة البسيطة . غير أنّ الذي كان يخْبُرهُ جيداً كان لا يملك إلاّ أن يحملَ له كل محبة واحترام! فقد تحدى هذا الرجل ظروفه الصعبة، والإعاقة البصرية، وقهر اليأس والفقر، وتجاوز حدود المشكلة بثقة واقتدار، وعزمٍ لا يلين، وخرج على الناس كل صباح بصوته المحزون ليقدّم لهم ما اشتاقوا إلى سماعه طوال الليل..!!
كانت لقمة العيش لأبي خليل مقترنة بصوته الرنّان وعكّازه الذي يتوكأ عليه ويتقن استخدامه ميمنة وميسرة!! كي لا يعثر في جنبات الطريق، كما لاقى في هذا الزمان من عثرات..!
إن أبا خليل غاية في الإحساس المرهف بصبره، يسكب في أسماع الناس لفظ القدس، صوت يدوي في الفضاء فيحاكي هموم الناس ببصيرة نافذة، وقلب أبيض من ثلج الشتاء، وقد كنّاهُ الناسُ بالسنونو لصوته وطوافه بين الطرقات ولبساطته التي تمثل بساطة الفلسطيني حين يضيق الزمان على الفقراء..!!
رحل أبو خليل، ذاك اللاجئ الذي أكل من سردين الأونروا، وسكن خيام المشرّدين، وتحمّل آلام الجوع، وذرف الدموع شوقاً لوطنه البعيد وأرضه المغتصبة! وبقي صوته خلف ذلك كالصدى يهزّ مشاعر السامع وهو يذكّر بأسماء الشهداء وبمجازر المحتلّ وبالمقاومين في لبنان ..
كان تأثره واضحاً بكل مجريات الأمور إلاّ أنّ انشغاله بعزاء ولده الشهيد منعه من أن يصدحَ عالياً باستشهاد ابنه الشاب حكم.. ولعله أسرّ ذلك في نفسه التي اعتادت على تحمل المصائب التي لازمته طوال سني حياته!! فظهرت في تجاعيد خديه ونحافة جسمه، ولم تغير في نقاء قلبه ومحبته لشعبه !!
يا أبا خليل، قد كنت بسيطاً في عيشك، وأصبحت عظيماً بعد مماتك، تستحق الرتب والنياشين، وسيرتك العاطرة تركتْ لنا الأنموذج الحيّ في المعاناة التي لم تمنعك أن تصرخَ باسم القدس صباح مساء، وفي كلّ مكان في نابلس..!!ولعلك الفائز حقاً بهذا التكرار اللفظي للقدس من بين أبناء الشعب الفلسطيني كافة. اسمح لي من بعد رقادك أن أناديك بلفظ يليق بلفظكم وبساطتكم وتحديكم، بصوت بعيد عن النشاز والصمت المطبق...أن أسميك، وفي التسمية تكريم تستحقه.. أنّك أنت صهيل القدس، وخيل القدس التي لم تفتر همّتها، ضاق بها الزمان ولم تضق! وسيبقى صدى صوتك يحكي عراقة القدس .. وتراث نابلس الحديث، إلى الأجيال البعيدة...رحمك الله وأسكنك فسيح جنّاته ..!!