حضورك خلاصي
حضورك خلاصي
مادونا عسكر
أحبّ من العالم صخبه المدوّي في أنحاء المعمورة، يربك مسامع الجبال ويقضّ مضجع الوديان، ولكنّه يمرّ بالقرب منّي ويتلاشى. وحده صوتك يأسر مسمعي، ويدخلني إلى صومعة الهدوء حيث يتجلّى صوتك هديل حمام أبيض، يبلّغني السّلام حاملاً إليّ عود زيتون أخضر.
أحبّ من العالم شقاءه المتربّص بالقلوب الخائفة والقلقة، يشتّت أحلامها وينهك غفوتها، ولكنّه لا يدرك حنايا ذاتي ففيها تنبت رياحين النّعيم الّذي لا يفنى. ترتوي من فيض سحرك وتزهر عناقيد رغد متلألئة السّناء.
أحبّ من العالم عبوديّته الدّامسة تعمي أبصاراً وتحني ظهوراً وتقيّد ملامح أرواح وتأسرها في معتقلات الوجع والسّقم. تزحف من ثقل الأغلال ولمّا تستقرّ عند باب حرّيتي، يدهشها انعتاق روحك العذبة، فتندثر كالدّخان في متاهات الفضاء.
أحبّ من العالم ليله المظلم، يرخي بعتمته على أخاديد الوجود المتالّم من فرط البؤس، لأنّي لا أتطلّع إلّا لفجرك البازغ من خدر السّماء فلا أشاهد من الظّلمة إلّا ضياء حضورك، ولا أتلمّس من حلكتها إلّا عبير نورك الوضّاء.
أحبّ من العالم أمواجه العاتية تلتهم كلّ من دنا من غمرها النّهم، فيهلك من شدّة الكآبة والهمّ. وأمّا انا فلي فيك فلك سرمديّ يقيني غضب العباب، ويحفظ رجائي العظيم بروحك الّتي تحتوي إنسانيّتي.
أحبّ تلك الأشواك الّتي تكلّل عبق سكينتي وتبعث الألم في روحي، وأحبّ فقري إليك يا من لا أغتني إلّا بكلمة أرتشفها من عمق أزليّته. أحبّ جوعي المشبع بحضورك الغائب وغيابك الحاضر، وأحبّ ذلك الحجاب الإلهيّ الّذي يمنحني أن أبصر وجهك الحبيب ويلهب شوق نفسي حين يستتر محيّاك عن حواسي البشريّة.
ما هو العالم لولا حضورك البهيّ، يشقّ بحر نفسي فأسير بظلّ غمامك نحو الخلاص الّذي أعددته لي. وما هو العالم لولا نسيمات صمتك يزغرد في مسمع الخليقة ليصل إليّ عاصفة حبّ تقتلع من ذاتي أشواك الحياة لتزرع فيها مجد حبّك اللّامتناهي.
سراب هو العالم، من دون رعشة وجودك المنسدل ستائر حرير على أهداب الشّموس، ووهم هو لولا يقينك المتجذّر كالأرز على الجبال النّاظرة إليك. إن وجد العالم فليبهر الأنام بصورة حبّك الوافر الّذي لا يحدّد فصولاً ليهطل بغزارة على ورود نفسي فتحيا أبداً ملتحمة بكرمتك.
فيا سيّد حياتي، وسراج دربي، ما همّ بعدُ إن خضع العالم لضوضاء الهموم والأحزان، وما همّ إن سلك دروب الحيرة والارتباك. وما همّ إن قصر نهار أو طال ليل، أو عظم موج أو اضطّرمت نار إن كنت أنت السّاكن في أعماق النّفس، والحاضر في حقيقة الكيان، والحامل أبداً قلبي بين يديك رافعاً إيّاه إلى مسرح الشّمس وشرفات السّماء.