لا تسخروا من القدماء, فيسخروا منكم الحدثاء
لا تسخروا من القدماء, فيسخروا منكم الحدثاء
محمد جهاد إسماعيل
بين الفينة والأخرى, نطالع في نشرات الأخبار, وفيما تكتبه الصحف والمجلات, وجود سباق محموم بين خبراء الآثار والأنثروبولوجيين في العالم. ما دام هكذا سباق في مصلحة العلم والمعرفة, فيا مرحباً به من سباق وتنافس شريف ومحمود.
بين الفينة والأخرى, نسمع أو نقرأ أو نشاهد وجود اكتشافات أنثروبولوجية جديدة. تعالج بدورها هذه الاكتشافات سؤالين اثنين, لطالما أرقا العقل البشري وسببا له الحيرة والجدل والمتاعب.
- ( متى وأين وجد الإنسان الأول ؟ ).
- ( متى وأين وجد المجتمع البشري الأول ؟ ).
بطبيعة الحال فإن تلك الاكتشافات التي يقدمها لنا علماء الآثار, وعلماء الأحافير والأنثروبولوجيين, تثير شغف الناس ساكني هذا الكوكب. فتعرف الإنسان على أسلافه الأوائل وأخبارهم وآثارهم, هو أمر غريزي عند الإنسان, والله أعلم.
هذه الاكتشافات العلمية الأنثروبولوجية التي تتم في هدوء, لا يعلم بها عامة الناس, إلا من خلال ضجيج الإعلام وبريقه الفاتن. فبإثر ذلك تثار عند الناس وخصوصاً المثقفين منهم, نوبات التفكير والتحليل والتأمل والمقاربة.
نعم, من الجيد أن نعمل عقلنا وأن نفكر وأن نتأمل كيف كان الإنسان القديم, وكيف كانت المجتمعات البشرية البدائية البسيطة الأولى. جيد أن نجد هناك ما نجد, من دراسات علمية منضبطة المعايير, وتأملات وتخيلات سارحة, في ضوء ما توصل إليه العلم الحديث, من اكتشافات حول الإنسان البدائي القديم, وإطاره الاجتماعي الأساسي.
لكن هناك أناس لا يأخذون الكشوف العلمية الأنثروبولوجية على محمل الجد. فيهزءوا من الإنسان القديم, ويتقززون من شكله, ويتندرون من عاداته وممارساته, بدعوى أنه إنسان متخلف ومنحط, وبالي الفعل والهيئة !!.
هؤلاء المغرورين بحداثتهم وتقدمهم وحضارتهم يهزءون من الإنسان القديم, ويتنكرون لتاريخه, ويحقدون عليه بلا داعي ولا سبب, وكأنه عار على البشرية. لكن ربما يتناسى هؤلاء النرجسيين المتكبرين, أن الإنسان القديم في عصره الذي عاش فيه, لربما كان أكثر منهم حداثة وتقدم وحضارة. نعم, لا يدهشكم ذلك, فلكل زمن وعصر هناك مواصفات خاصة لمفاهيم الحداثة والتقدم والحضارة. والمفاهيم الثلاثة بطبيعة الحال, يختلف شكلها ومضمونها من عصر إلى آخر, أو من زمن إلى آخر.
فوصول الإنسان إلى الفضاء يعد قمة التقدم والحداثة في عصر ما من عصور البشرية, واختراعه للكاميرا الديجيتال يعد أيضاً ذروة التقدم والحداثة, في عصر آخر من عصور البشرية. وفي المقابل فإن استئناس الإنسان لقصب السكر, أو معرفته للجرجير, فتعد ذروة سنام التقدم والحداثة, لكن في عصور أخرى من حياة البشرية.
ليس من العدل ولا من الأخلاق, أن نجد من يجلس في حجرته المكيفة, ويطالع حاسوبه ويشرب الكوكاكولا المثلجة, وهو يهزأ من الإنسان البدائي الكادح المكافح, الذي اقتات في زمانه من الجمع والالتقاط, أو اقتات مما ترمي يداه من بذور. فليس للإنسان السلبي والخامل والإتكالي, أن يهزأ من نظيره النشيط والمجتهد والمكافح. حتى ولو كان تحت إمرة الأول, جيشاً عرمرم من الماكينات والآلات, ووسائل التكنولوجيا والإنتاج والرفاهية.
أرى أن التكنولوجيا في حد ذاتها قد تكون نقمة أحياناً على الإنسان, فأدوات ووسائل التكنولوجيا والرقمية الحديثة, هي التي أكسبت الإنسان الكبر والخيلاء والغرور. إذ صار الإنسان مغروراً بما صنعت له يداه, وبما خلقت له بنات أفكاره. فصار منكراً لسلفه الإنسان البدائي القديم, ومنكراً لدوره التأسيسي, في تراكمية التطور الحضاري.
نعم أنا أؤمن بنظرية التطور الحضاري. فالإنسان ينسى أحياناً, أنه لولا تراكم التطورات والحداثات المتعاقبة عبر العصور والأزمان, لما وصل إلى ما بين يديه اليوم من تقدم وحداثة. فالتقدم والحداثة لا يأتيان فجأة ولا يأتيان من فراغ, وإنما يأتيان كتكملة وتراكم لما وصل إليه السابقون من تقدم وحداثة. باختصار يمكننا القول, أن التقدم والحداثة هما بمثابة أطوار مبنية على ما جاء قبلها من أطوار أخرى سابقة, إذ تتحسن وتتطور وتتكامل وتنمو هذه الأطوار, كلما ازدادت خبرة البشر وتقادم الزمن.
فيا أيها الإنسان, لولا معرفة أسلافك الأوائل لزراعة الذرة وحصادها وجرشها, لما وصل إليك الكورن فليكس بصورته المغرية التي تعهدها اليوم. ومن يدري فربما يصير الكورن فليكس الذي تتباهى به اليوم, مصدراً لسخرية الأجيال القادمة, فلربما تتقدم عادات الطعام وصنوفه في تلك الأيام, فتتنكر تلك الأجيال للكورن فليكس وتتعالى عليه, وتعده طعاماً بالياً, أو لعلها تقدمه طعاماً للمواشي !!.
إذا ما نظرنا إلى حركة التاريخ وسيرته, لوجدنا أجيالاً تسخر من الأجيال التي قبلها. فكل جيل أصابه الزهو والغرور, يظن أنه هو فقط الذي صنع التقدم والمجد والحضارة, وأنه من عنده فحسب بدأ التاريخ !!.
أحياناً قد يسخر الإنسان من أسلافه الأوائل أصحاب الحياة البدائية البسيطة, وذلك بفعل التكنولوجيا والرفاهية التي تحفه من كل جانب. فيهزأ من البشر الأوائل ساكني الكهوف والخيام, ويهزأ من الأواني التي استخدمها البدائيون في طعامهم وقت حياتهم, ويهزأ من النساء البدائيات عاريات النهود.
لكن هذا الإنسان وفي لحظة انفعال, قد ينقلب مزاجه رأساً على عقب, وقد يتمنى لو أن الله خلقه بدائياً في تلك العصور الغابرة, ولم يعرف للتكنولوجيا طعماً أو لون. فتخيلوا معي ذلك الإنسان الألمعي المثقف والمتحضر, إذا ما ألقته الدولة في غياهب سجونها, سجيناً سياسياً. وتخيلوا معي ذلك الإنسان الرأسمالي الثري والمنعم, إذا ما خسرت شركاته, أو حلت به نكبة ماحقة في البورصة. ألا يتمنى هذان الشخصان, لو أن الله خلقهما في العصور البدائية القديمة !!. أفليس العزلة في كهف نائي, أو السعي وراء قطيع بهائم, هو أفضل لهذين الشخصين من العيش في عصر التكنولوجيا والرقمية المذهلة !!.
من الجيد أن نواكب الكشوف العلمية الأنثروبولوجية المتلاحقة, ومن الجيد أن نبحث وندرس ونراقب كيف عاش الإنسان قديماً في مهد التاريخ, وأول الحياة. نعم, فلنتابع بالدقة والتفصيل, كيف كان الإنسان القديم يأكل, كيف كان يمارس عاداته الاجتماعية وطقوسه الروحية, كيف كان يمارس الصيد, كيف كان يسافر ويتنقل, كيف كان ينام, وكيف كان يخصف نعله.
لكن ينبغي علينا ألا نسخر أو نهزأ من وجود هؤلاء القدماء الأوائل. ولا أن نستهن بما صنعوا وفعلوا. فالحضارة والتقدم والحداثة, جميعها تأتي بالتراكم والتتابع. الإنسان البدائي الأول ( الذي يبدو للبعض متخلفاً ) لا يقل عنا حضارة أو تقدم أو حداثة. ليس هكذا فحسب, بل ويشاركنا هذا الإنسان في مجد وإنجاز ما توصلنا إليه اليوم من علم, وابتكار, وتكنولوجيا, ورقمية مذهلة.
أرجوكم ألا تسخروا من أسلافنا البشر الأوائل, وألا تستخفوا بإرثهم الذي خلفوه ورائهم, وألا تحقروا من أثرهم في حياتنا المعاصرة . فما يدريكم, لعل أثرنا في حياة إنسان الألفية الرابعة, يكون كالشعرة البيضاء في الشاة السوداء, أو كالشعرة السوداء في الشاة البيضاء !!.