في ذكرى أمل دنقل
إبراهيم خليل إبراهيم
في 21 مايو عام 1983 رحل الشاعر المبدع أمل نقل إلى دار الخلود بعد معاناة مع مرض السرطان على مدار 3 سنوات،كانت لحظاته الأخيرة في الحياة الدنيا برفقة الدكتور جابر عصفور،وصديق عمره الشاعر الكبير عبد الرحمن الأبنودي الذي رغب في تحمل نفقاته مراسم جنازته لكن الأسرة رفضت،وتقول سجلات المواليد أن شاعرنا القدير اسمه محمد أمل فهيم أبو القسام محارب دنقل من مواليد عام 1940 بقرية القلعة مركز قفط بمحافظة قنا لأسرة صعيدية،ووالده من علماء الأزهر الشريف،وسماه أمل دنقل تيمنا لمولده في نفس السنة التي حصل فيها على اجازة العالمية،ورث أمل دنقل عن والده موهبة الكتابة والشعر حيث كان يكتب الشعر العمودي ويمتلك مكتبة كبيرة تضم كتب الفقة والشريعة والتفسير وكنوز التراث العربي،وعندما بلغ أمل عامه العاشر رحل والده إلى الدار الأخرة فتاثر برحيله وترك مسحات من الحزن على حياته وأشعاره،وبعد حصول أمل دنقل على الشهادة الثانوية حضر إلى القاهرة والتحق بكلية الآداب ولكنه أنقطع عن الدراسة حتى يعمل،وبالفعل عمل في محكمة قنا وجمارك السويس والإسكندرية ثم في منظمة التضامن الأفروآسيوي،عاصر أمل دنقل أحلام الثورة المصرية والعروبة كما عبر عن صعيد مصر،وصدم بسبب نكسة يونيو عام 1967 وعبرعن ذلك في ديوانه الأول(البكاء بين يدي زرقاء اليمامة)الصادر عام 1969،وفرح عندما قامت القوات المسلحة المصرية بعبور قناة السويس وإقتحام خط بارليف يوم السادس من أكتوبر 1973 م كما عبر عن معاناته مع المرض في مجموعته (أوراق الغرفة 8) وهو رقم غرفته في المعهد القومي للأورام والذي قضى فيه 3سنوات، وفي قصيدته (السرير) عبر عن آخر لحظاته ومعاناته في الحياة.
قدم أمل دنقل للنكتبة العربية 6 دواوين شعرية ففي عام 1969 صدر ديوان الأول بعنوان (البكاء بين يدي زرقاء اليمامة)وفي عام 1971 صدر ديوانه الثاني (تعليق على ماحدث) وفي عام 1974 جاء ديوانه الثالث بعنوان (مقتل القمر) وفي عام 1975 كان ديوانه الرابع (العهد الآتي) وفي عام 1983 أصدر ديوانه الخامس (أقوال جديدة عن حرب بسوس) وفي نفس العام تبعه بديوانه السادس (أوراق الغرفة 8)،وصدرت مؤلفات عن أمل دنقل وعالمه الشعري بأقلام نخبة من الشعراء والنقاد ونذكر منهم:حسن الغرفي والسماح عبد الله وعبلة الرويني وجابر قميحة وسيد البحراوي ونسيم مجلي وعبد السلام المساوي وحلمي سالم.
يقول الشاعر أمل دنقل في قصيدته البكاء بين يدي زرقاء اليمامة :
أيتها العرافة المقدَّسةْ ..
جئتُ إليك..مثخناً بالطعنات والدماءْ
أزحف في معاطف القتلى،وفوق الجثث المكدّسة
منكسر السيف، مغبَّر الجبين والأعضاءْ.
أسأل يا زرقاءْ ..
عن فمكِ الياقوتِ عن،نبوءة العذراء
عن ساعدي المقطوع..وهو ما يزال ممسكاً بالراية المنكَّسة
عن صور الأطفال في الخوذات..ملقاةً على الصحراء
عن جاريَ الذي يَهُمُّ بارتشاف الماء..
فيثقب الرصاصُ رأسَه..في لحظة الملامسة !
عن الفم المحشوِّ بالرمال والدماء !!
أسأل يا زرقاء ..
عن وقفتي العزلاء بين السيف..والجدارْ !
عن صرخة المرأة بين السَّبي. والفرارْ ؟
كيف حملتُ العار..
ثم مشيتُ ؟ دون أن أقتل نفسي؟! دون أن أنهار؟!
ودون أن يسقط لحمي ..من غبار التربة المدنسة؟!
تكلَّمي أيتها النبية المقدسة
تكلمي ..باللهِ ..باللعنةِ ..بالشيطانْ
لا تغمضي عينيكِ،فالجرذان..
تلعق من دمي حساءَها..ولا أردُّها!
تكلمي ...لشدَّ ما أنا مُهان
لا اللَّيل يُخفي عورتي .. كلا ولا الجدران!
ولا اختبائي في الصحيفة التي أشدُّها ..
ولا احتمائي في سحائب الدخان!
.. تقفز حولي طفلةٌ واسعةُ العينين..عذبةُ المشاكسة
(- كان يَقُصُّ عنك يا صغيرتي..ونحن في الخنادْق
فنفتح الأزرار في ستراتنا..ونسند البنادقْ
وحين مات عَطَشاً في الصحَراء المشمسة ..
رطَّب باسمك الشفاه اليابسة ..
وارتخت العينان!)
فأين أخفي وجهيَ المتَّهمَ المدان؟
والضحكةَ الطروب:ضحكتهُ..
والوجهُ..والغمازتانْ ! ؟
* * *
أيتها النبية المقدسة ..
لا تسكتي ..فقد سَكَتُّ سَنَةً فَسَنَةً ..
لكي أنال فضلة الأمانْ
قيل ليَ "اخرسْ .."
فخرستُ ..وعميت ..وائتممتُ بالخصيان !
ظللتُ في عبيد (عبسِ) أحرس القطعان
أجتزُّ صوفَها ..
أردُّ نوقها ..
أنام في حظائر النسيان
طعاميَ:الكسرةُ ..والماءُ ..وبعض الثمرات اليابسة .
وها أنا في ساعة الطعانْ
ساعةَ أن تخاذل الكماةُ..والرماةُ ..والفرسانْ
دُعيت للميدان!
أنا الذي ما ذقتُ لحمَ الضأن ..
أنا الذي لا حولَ لي أو شأن ..
أنا الذي أقصيت عن مجالس الفتيان،
أدعى إلى الموت..ولم أدع الى المجالسة!!
تكلمي أيتها النبية المقدسة
تكلمي..تكلمي ..
فها أنا على التراب سائلٌ دمي
وهو ظمئُ ..يطلب المزيدا
أسائل الصمتَ الذي يخنقني:
" ما للجمال مشيُها وئيدا..؟! "
أجندلاً يحملن أم حديدا..؟!"
فمن تُرى يصدُقْني؟
أسائل الركَّع والسجودا
أسائل القيودا:
" ما للجمال مشيُها وئيدا..؟! "
" ما للجمال مشيُها وئيدا..؟! "
أيتها العَّرافة المقدسة..
ماذا تفيد الكلمات البائسة ؟
قلتِ لهم ما قلتِ عن قوافل الغبارْ ..
فاتهموا عينيكِ، يا زرقاء، بالبوار!
قلتِ لهم ما قلتِ عن مسيرة الأشجار ..
فاستضحكوا من وهمكِ الثرثا !
وحين فُوجئوا بحدِّ السيف:قايضوا بنا ..
والتمسوا النجاةَ والفرار!
ونحن جرحى القلبِ،
جرحى الروحِ والفم
لم يبق إلا الموتُ ..
والحطامُ ..
والدمارْ ..
وصبيةٌ مشرّدون يعبرون آخرَ الأنهارْ
ونسوةٌ يسقن في سلاسل الأسرِ،
وفي ثياب العارْ
مطأطئات الرأس..لا يملكن إلا الصرخات الناعسة !
ها أنت يا زرقاءْ
وحيدةٌ ...عمياءْ!
وما تزال أغنياتُ الحبِّ..والأضواءْ
والعرباتُ الفارهاتُ ..والأزياءْ !
فأين أخفي وجهيَ المُشَوَّها
كي لا أعكِّر الصفاء.. الأبله..المموَّها
في أعين الرجال والنساءْ !؟
وأنت يا زرقاء..
وحيدة..عمياء!
وحيدة..عمياء!.
ننتقل إلى قصيدة أخرى من قصائد الشاعر القدير أمل دنقل وهى قصيدة (ضد من) ويقول فيها:
في غُرَفِ العمليات
كان نِقابُ الأطباءِ أبيضَ
لونُ المعاطفِ أبيض
تاجُ الحكيماتِ أبيضَ, أرديةُ الراهبات
الملاءاتُ
لونُ الأسرّةِ،أربطةُ الشاشِ والقُطْن
قرصُ المنوِّمِ أُنبوبةُ المَصْلِ
كوبُ اللَّبن
كلُّ هذا يُشيعُ بِقَلْبي الوَهَنْ
كلُّ هذا البياضِ يذكِّرني بالكَفَنْ!
فلماذا إذا متُّ..
يأتي المعزونَ مُتَّشِحينَ..
بشاراتِ لونِ الحِدادْ؟
هل لأنَّ السوادْ..
هو لونُ النجاة من الموتِ
لونُ التميمةِ ضدّ..الزمنْ
***
ضِدُّ منْ..؟
ومتى القلبُ - في الخَفَقَانِ - اطْمأَنْ?!
***
بين لونين:أستقبِلُ الأَصدِقاء..
الذينَ يرون سريريَ قبرا
وحياتيَ..دهرا
وأرى في العيونِ العَميقةِ
لونَ الحقيقةِ
لونَ تُرابِ الوطنْ!.
رحمة الله على روح الشاعر الكبير أمل دنقل الذي رحل عن الحياة الدنيا بجسده ولكن أشعاره مازلت بيننا تنبض بالحياة.