حتى نجعلَ من النُّزوحِ مَكْسَبًا

محمد عبد الرازق

ممّا لا شكَّ فيه عند المؤمن أنَّ أمرَه كلَّه خير؛ و حتى ننتقلَ إلى ما هو محسوسٌ من ذلك، سأعود بالذاكرة إلى ما كان للسوريين من حالة النزوح القسريّ في ثمانينات القرن الماضي، أيام ما عُرِف بصدام  الإخوان المسلمين مع الأسد ( الأب ).

لقد هام شبابُ الإخوان حينها على وجوههم، و كان جلُّهم ممّن لم يتحصَّلوا على الشهادة الجامعية، و سعيدُ الحظّ من الآخرين من كان حاملاً في حقيبته على الشهادة الجامعية، أو أهلية التعليم ( الدبلوم: سنتان بعد الثانوية ).

هذا على المستوى التعليمي، و الأمر على المستويات الأخرى ليس بأحسنَ حالاً؛ فليس فيهم من الكوادر المُدرَّبة على العمل السياسي، أو الإعلامي، أو التنظيمي، أو الإداري العدد الغفير، القادر على النهوض بمقتضيات الثورة.

و قل مثل ذلك على المستويات المادية، أو الاقتصادية؛ ناهيك عن الأمور العسكرية، التي كانت عنوان نزالهم مع دولة تُصنَّف على أنها من الدول المتقدَّمة في المجالات العسكرية، و الأمنية.

الأمرُ الذي جعلَ كثيرًا من أصدقاء الإخوان يُشفِقُ عليهم من هذا الأتون الذي أقحموا أنفسهم فيه، لا بلْ كان بعض هؤلاء يرى أن ذلك فخٌ وقعَ الإخوان في شراكه؛ من أجل ضرب حركتهم قبل أن تنضج، و تؤتي ثمارها في الوقت المطلوب.

و لكن لنَنْظرَ في مآلات الأمور بعد ذلك، و فيما تحصَّلوا عليه في المجالات كلِّها: لقد أصبح فيهم أعدادٌ لا يُستهان بها من أصحاب الشهادات العالية في مختلف التخصصات، و أصبح فيهم من أصحاب رؤوس الأموال ما جعلَهم موضع نظر في مدّ يد العون، و الإغاثة لأهلهم في محنة اليوم، و أصبحوا يمتلكون من الكوادر المؤهلة ( سياسيًّا، و إعلاميًّا، و إداريًّا، و حتى عسكريًّا ) الشيء الكثير.

و هذا ما يُفسِّر عند كثيرٍ من المُراقبين الحملَة المحمومة ضدّهم من لدُن أعدائهم في النظام، أو من المتوجسين منهم خوفًا من شركائهم في مؤسسات العمل الثوري الان.

و بهذا منَّ اللهُ عليهم، و عوَّضهم في عاجلة أمرهم خيرًا، و فوَّت على النظام مقاصده في نفيه لهم؛ فكانت غربتُهم فُرصَ ابتعاث لهم إلى دولٍ ما كان لهم أن يسافروا إليها؛ لقد نهلوا غزير العلم من معاهد التعليم فيها، و سلكوا أنفسهم في مختلف مؤسساتها؛ فكان منهم ما أسلَفنا من الكوادر الحزبية، و المهنية.

و اليوم، و بعدَ أن جرى ما نرى لأبناء شعبنا من هجرة قسرية، فرضتها عليهم ظروف المعركة مع نظام الأسد ( الابن )؛ نقول:

حريٌّ بأبناء شعبنا أن يجعلوا من هذا النزوح مكسَبًا، يعود عليهم، و على ثورتهم، و على دولتهم في قادم الايام بالخير العميم، على غرار ما فعلَ أبناؤهم من جماعة الإخوان المسلمين في نزوح الثمانينات.

إنَّ دولة البعث، و نظام الأسد اللذين حكما سورية على مدى نصف قرن من الزمان، قد جعلا منها ( شعبًا، و مؤسسات ) دولة تعيش برؤية واحدة، و لون واحد، و حزب واحد، و زعيم واحد؛ فحُرِمت بذلك من ثمرات التعدُّد، و التنوع الثقافي، و السياسي، و الإداري، و الإعلامي، و المادي، و الإنمائي، و العمراني، و التخطيطي.

 و إن شئت أن تقول: من كلّ مظاهر التأثر بالعالم الخارجي، المُثري للمجتمع، و الدولة؛ فأنت محقٌّ.

و ها هي الأقدار قد ساقتُهم إلى مواطن النزوح، و لاسيّما الخارجية منها؛ كي يطلعوا على تجارب جيرانهم، و إخوانهم في دول المحيط العربي، و الإسلامي، فضلاً على الأجنبي، في شتَّى مجالات الحياة؛ فيعملوا على نقل هذه الخبرات، و التجارب البشرية إلى دولتهم القادمة؛ و بذلك يختصرون كثيرًا من مراحل العمل، و يوفرون كثيرًا من الوقت، و الجهد، و المال، و هم يعيدون رسم شكل الدولة السورية القادمة التي ينشدونها، بعد التخلّص من هذا الورم الخبيث، الذي علِق بحسدها على مدى نصف قرن من الزمان؛ فجعلَها دولة لا يَسُرُّ حالُها صديقًا، و لا يَغِيظُ عدوًّا.