عالم اليوم وحاجته إلى اقتصاد أخضر
عالم اليوم وحاجته إلى اقتصاد أخضر
د. هايل عبد المولى طشطوش
ظهرت في العقود الأخيرة مفاهيم ومسميات كثيرة في عالم الاقتصاد ولعل من ابرز ما يلفت النظر هو ظهور مفهوم " الاقتصاد الأخضر" أو الاقتصاد النظيف"، هذا النوع من أنواع الاقتصاد وبهذا المفهوم ظهر حديثا حين تطور العالم وتحول من المرحلة الزراعية والتجارية إلى مرحلة الصناعة والتصنيع ، وهو يعني ببساطة :" ذلك النوع من النشاط الاقتصادي القائم على حماية البيئة والحفاظ عليها نظيفة خالية من التلوث والاستنزاف وخاصة بعد أن أصبح العالم اليوم بحاجة أكثر من أي وقت مضى إلى التحول نحو تنمية مستدامة تقوم على اقتصاد نظيف يحفظ البيئة ويحافظ على مواردها من التلف والعطب والتلوث والاستنزاف، فالاقتصاد الأخضر يعني "الانتقال إلي اقتصاد منخفض الكربون يعتمد علي استخدام الطاقة الجديدة والمتجددة في إطار ممارسات بيئية ،مستدامة"وهو اقتصاد يساهم بترقية حالة الرفاه الاجتماعي للإنسان، حيث إن الأجيال القادمة سوف تعاني كثيرا مما اقترفته مدنية الآباء والأجداد بحق البيئة ومواردها وثرواتها وخيراتها حيث عاثت فيها تلويثا وتسميما وعطبا فأخذت كل شيء ولم تبق للأجيال القادمة شيئا فتحول الاقتصاد إلى اقتصاد اسود والبيئة تحولت إلى بيئة جافة يابسة تالفة تعاني من شح الموارد وتلوث الهواء .
لقد ساهمت المدنية الحديثة اليوم في استنزاف البيئة وتدمير الاقتصاد الأخضر وتحويله إلى اقتصاد اسود وذلك من خلال الانتشار الواسع للصناعات القائمة على الموارد الأولية المنتشرة في البيئة كالهواء والماء والأخشاب والمعادن والصخور والنباتات... الخ ومما سارع وتيرة استنزاف هذه الخيرات هو العولمة وسرعة انتشار المدنية ناهيك عن ازدياد أعداد سكان الأرض .
لقد ساهم التحول إلى الاقتصاد الملوث في انتشار عدد من المظاهر والظواهر والتي أصبحت من ابرز ميزات كوكب الأرض والتي من أبرزها :
- ازدياد أعداد الفقراء في العالم حيث جاوز بنهاية عام 2010 المليار نسمة وانتشار أزمات الغذاء وفقدان الأمن الغذائي على الصعيد العالمي ، إضافة إلى الارتفاع المستمر في أسعار المواد الغذائية.
- ازدياد أعداد العاطلين عن العمل وارتفاع نسبة البطالة في كافة دول العالم وما يتبع ذلك من ارتفاع نسبة الأمية ونسبة الجريمة وزعزعة الأمان والسلم الاجتماعي على مستوى العالم.
- انتشار الأمراض والأوبئة بين سكان الأرض بسبب التلوث البيئي الناجم عن ازدياد نسبة الكربون وثاني أكسيد الكربون في الهواء .
- تمدد وازدياد مساحات الجفاف والتصحر في العالم الناجمة عن ارتفاع حرارة الأرض والذي تسبب به الاحتباس الحراري وتدهور الوضع الايكولوجي للمناخ.
- انتشار وبروز الأزمات الاقتصادية حيث أصبح الركود والكساد والتضخم أهم سمات الاقتصاد العالمي.
- ازدياد الكوارث البيئية كالزلازل والبراكين والانهيارات والفيضانات والناجمة عن تلاعب الإنسان بعناصر البيئة مما أدى إلى اختلال نظام التوازن البيئي.
- تلوث البحار والمحيطات وتقلص حجم الأحياء البحرية بسبب ما يلقى فيها من مخلفات صناعية وملوثات .
هذه بعضا من مظاهر اختلال الاقتصاد وتحوله من اقتصاد نافع ومفيد يحقق الرفاه للإنسان إلى اقتصاد ضار يعود على الإنسان بالفقر والمرض والخوف والجهل.
من اجل ذلك كله تنادى العالم اليوم ومن خلال المنظمات الدولية كهيئة الأمم المتحدة ومنظمات البيئة والسلام الأخضر وحماة الطبيعة والمدافعين عنها ومؤسسات المجتمع المدني إلى انقاد البشرية من الخطر القادم والسعي نحو تنمية مستدامة واقتصاد يقوم على طاقة نظيفة متجددة وليست محدودة، فعقدت المؤتمرات الخاصة بذلك كقمم ريو والتي كان أخرها قمة ريو 20+ لعام 2012 والتي نادت بحماية البيئة والحفاظ على ثرواتها ووضع ضوابط على التصنيع والتجارة والتركيز على الزراعة كمنقذ للبشر من ويلات المجاعات خاصة أن هناك حوالي 2.5 مليار نسمة يعيشون على اقل من دولارين يوميا . هذا وقد أطلق برنامج الأمم المتحدة للبيئة مبادرة الاقتصاد الأخضر عام 2008، بهدف توفير التحليل والدعم السياسي للاستثمار في قطاعات خضراء وفي تخضير قطاعات غير صديقة للبيئة.
يركز علماء المناخ والبيئة والمهتمون في موضوع التنمية المستدامة والاقتصاد الأخضر على ضرورة زيادة وتيرة الاستثمار في هذا النوع من الاقتصاد والقائم على تحسين واقع البيئة من مراعي وغابات ومياه عذبة ومصائد اسماك وثروات حرجية وغيرها وتنميتها وتحسين واقعها ، وتقول الدراسات العلمية إن استثمارات ما بين 100 – 300 مليار دولار سنويا من عام 2010 – 2050 في الاقتصاد الأخضر يمكن لها أن تساهم تحسين نوعية الحياة البيئية من خلال حماية التربة والحفاظ على مصادر المياة من التلوث وتحسن الأداء الزراعي على مستوى العالم وزيادة الإنتاج مما يساهم في تخفيف حدة الفقر والجوع، وقد بلغت الاستثمارات في الطاقة النظيفة عام 2010 ما بين 180 – 200 دولار، كما قامت كثير من الدول بتبني سياسات للمضي قدماً في عملية التحول للاقتصاد الأخضر. ونتيجة لذلك ارتفعت التدفقات الاستثمارية في مجال الطاقة المتجددة بحوالي ستة أضعاف خلال الفترة من 2001 إلي 2007.
..... إن هذا يعني أن هناك توجها عالميا نحو الاستثمار الأخضر والتنمية المستدامة، وتشير الدراسات إلى أن الاقتصاد الأخضر سوف يساهم في خفض نسب البطالة في العالم وخلق المزيد من فرص العمل أكثر من تلك التي يخلقها الاستثمار المماثل في الاقتصاد الأسود،ناهيك عن تحسن نوعية الحياة الناجم عن نقاء الهواء وخلوه من الملوثات الكربونية.
لا شك أن الاقتصاد الأخضر والاستثمار فيه سوف يساهم في استدامة الحراك والفعل الاقتصادي في كافة مجالات الحياة ومن أبرز الصور التي يمكن أن تحصل عليها الإنسانية من استثمارها في هذا الاقتصاد :
- خلق امن غذائي مستدام.
- تقليل نسبة التصحر والجفاف وزيادة نسبة المساحات الخضراء في العالم، مما يقلل من التلوث الهوائي .
- حماية الإنسان من الأمراض .
- تقليل عدد الفقراء في العالم بسبب تحسن كميات الإنتاج النباتي والحيواني.
- خلق مزيد من فرص العمل المستدامة في قطاعات الاستثمار الجديدة وخصوصا للفئات الأقرب من البيئة كالمزارعين والفئات الاجتماعية المهمشة في الأرياف والصحاري.
- بالنهاية خلق تنمية اقتصادية مستدامة شاملة لكل مجالات الحياة.
أي بمعنى اخر سيؤدي التحول إلي الاقتصاد الأخضر إلي تحسين نوعية الحياة للأفراد بشكل كبير. كما سيضمن تكنولوجيات وصناعات جديدة ستصبح هي صناعات النمو للقرن الحادي والعشرين..
أن البعد الاقتصادي للاقتصاد الأخضر يتلخص بما يلي:
- سوف يساهم الاستثمار في الاقتصاد الأخضر في تقليل الكلف التي تدفعها الدول والحكومات كنفقات مالية على علاج الإمراض الناجمة عن التلوث البيئي ، وكذلك تقليل الفاقد المالي كمدفوعات على التعليم.
- إن توفير فرص عمل جديدة سوف يساهم في تحفيز الطلب الكلي بسبب زيادة الدخول وبالتالي تنشيط حركة الاقتصاد وحمايته من الأزمات.
- ازدياد وتيرة النمو الاقتصادي بسبب تحسن البيئة الاستثمارية مما يحسن الأداء النقدي وتنشيط حركة الإقراض والتوسع في الائتمان وبالتالي الحفاظ على قوة النظام النقدي على المستويات كافة الدولية والإقليمية والمحلية.
- تحسين إنتاجية الاقتصاد وزيادة قدراته التنافسية.
- سيؤدي التحول إلي الاقتصاد الأخضر إلي تحقيق حياة أفضل وخلق بيئة أكثر تشجيعاً للعمل.
- تحسين مستوى الرفاهية الاجتماعية للسكان وتحقيق المزيد من العدالة في توزيع الثروات والدخول مما يساهم في تحقيق الأمن الاجتماعي والاستقرار السياسي للمجتمعات والشعوب.
وبالنهاية نلخص فوائد التحول الى الاقتصاد الأخضر بما جاء في تقرير الامم المتحدة الصاد في عام 2011 حيث جاء فيه:" أن الفوائد الرئيسية من التحول إلى الاقتصاد الأخضر، تتمثل في خلق الثروات وفرص العمل المتنوعة، والقضاء على الفقر وتحقيق الرخاء الاقتصادي على المدى الطويل، من دون استنفاد للأصول الطبيعية للدولة وبخاصة في الدول منخفضة الدخل. كما أن تخضير معظم القطاعات الاقتصادية سيؤدي إلى خفض انبعاثات غازات الاحتباس الحراري إلى حد كبير، ففي عدد من القطاعات المهمة كالزراعة والمباني والطاقة والنقل يوفر الاقتصاد الأخضر المزيد من فرص العمل على المدى القصير والمتوسط والطويل
نقول في النهاية أنه لابد من نشرالوعي بمفهوم الاقتصاد الأخضر واتجاهاته الحديثة والمهارات التقنية والإدارية اللازمة لبنائه لان ذلك سيوفر الكثير من الجهد والمال، وسيضمن تحقيق مسارات تنموية فعالة أكثر استدامة تسهم في التقليل من حدة الفقر.