ساعتي الأثيرة
د. حيدر الغدير
قبل قرابة ثلاثين عاماً اشتريت ساعة رقمية، وكان هذا النوع من الساعات جديداً يومذاك، يتسامع الناس به ويحرصون عليه ويزينون معاصمهم به. ومع أني لا أبادر سريعاً إلى اقتناء الجديد الذي يتسابق الناس إليه ويقلدون بعضهم في امتلاكه إلا أنني قلدتهم يومذاك.
ومع الزمن نشأت بيني وبين هذه الساعة ألفة ومودة حتى إنني استعملتها أكثر من عشرين عاماً بدون انقطاع، ومن العجيب أنني لم أحتج إلى تغيير بطاريتها قط، فقد ظلت تعمل بإخلاص وكفاءة كل هذه المدة الطويلة ببطاريتها الأولى.
وأخذ الناس يتحولون عن هذا النوع من الساعات لكنني لم أتحول عن ساعتي الأثيرة، وأخذ أصدقائي وأبنائي يلحون علي في تغييرها فلم أستجب، وبدأ بعضهم يلومني على الاحتفاظ بها لخدوش أصابتها هنا وهناك فلم أستجب، ثم إن ثمنها صار رخيصاً جداً فقد وصل إلى حوالي خمسين ريالاً وهو ما حدا بمن حولي إلى مطالبتي بتغييرها بدعوى أنها لا تليق بي لرخصها وهو أنها على الناس فلم أستجب أيضاً. وحدث أن انقطع حزامها وهو ما جعل المطالبين بالتغيير يجزمون أني سوف أفعل ولكنني لم أفعل واكتفيت بأن اشتريت حزاماً جديداً لها بعشرة ريالات.
ومرة ألح علي واحد من خلّص رفاقي بأن أشتري ساعة جديدة أجمل وأغلى فأطعته لكنني تركت الساعة الجديدة في البيت وعدت إلى ساعتي الأثيرة.
ومرة أخرى أهدتني ابنتي الأثيرة ساعة جديدة جميلة وثمينة فلم أستعملها وظللت على عهد الوفاء مع ساعتي الأثيرة.
قال لي أحد أبنائي: إنها لا تليق بك، فقلت له: بل تليق، إنها تؤدي مهمتها بكفاءة وقيمة الإنسان فيما يفعل لا فيما يحمل.
وقال لي آخر: إن كثيراً من الفقراء يلبسون ما هو أثمن من ساعتك، قلت: لهم أن يفعلوا ولي أن أفعل.
وفي كل مرة كان يطول الجدل كنت أقول لهم: إن الساعة وسيلة لضبط الوقت وليست غاية في حد ذاتها، وساعتي الأثيرة تؤدي مهمتها بدقة تامة فلم التغيير؟
وأخيراً تكاثرت الضغوط علي فوافقت مكرهاً على التخلص من ساعتي الأثيرة وليتني لم أوافق، ذلك أني أردت أن تصاحبني كل عمري. عندها سألت أبنائي ما الذي سوف نفعله بها، فقالوا: نعطيها لفقير، قلت لهم: وهل تجدون فقيراً يرضى بها؟ أتحبون الشجاعة؟ قالوا: نعم، قلت: شراء ساعة جديدة وثمينة وأنيقة والتزين بها لا يحتاج إلى شجاعة، إنما الشجاعة الحقيقية في احتفاظي بساعتي القديمة الأثيرة الوفية والتزين بها، وإن لامني من لام لأنني منسجم مع نفسي.
• • •
• كنت ولا أزال باستمرار أتذكر الحديث الشريف ((إن الله كتب الإحسان في كل شيء))، أتذكره مع ساعتي الأثيرة ومع سواها. لو أن كل واحد منا تعامل مع ساعته كما تعاملت لوفرنا أموالاً كثيرة، ثم لو أننا جعلنا هذا التعامل الذي يحثنا عليه الحديث الشريف قاعدة لنا في التعامل مع كل شيء في حياتنا من أثاث ولباس وأدوات وسيارات وطرق ومبان وأقلام وأوراق، وما إلى ذاك، لوفرنا أموالاً هائلة -فضلاً عن الجهد والوقت- لا أستطيع تخيل مقدارها لكنها ستكون بالمليارات.
• حين تتحول الوسائل إلى غايات نقع في الأوهام والتكاثر والتباهي، ونشتري ما لا نحتاج إليه فنقع في رذيلة التكدس، ثم نحتاج إلى أمكنة لحفظ ما كدسناه، وإلى جهد ووقت ومال لصيانته ثم نضيق به ذرعاً فنتخلص منه بعد أن يصير عبئاً ثقيلاً.
• نحن بحاجة إلى عادة الاستغناء لتكون بديلاً حميداً عن عادة الاستكثار، ومثل هذا التحول يحتاج إرادة جادة تقوم على عقل بصير ونفس غنية.
• رأيت أكثر الذين يشترون الساعات الثمينة هم أكثر الناس في إضاعة الوقت، مثلهم مثل الذين يقودون سياراتهم بسرعة بالغة تعرضهم وتعرض سواهم للخطر فإذا وصلوا حيث يريدون عكفوا على توافه الأمور.
• يقول الصحابي العظيم الداهية عمرو بن العاص رضي الله عنه: لا أطلق زوجتي ما أطاقت عشرتي، ولا أغير صديقي ما أحسن صحبتي، ولا أبدل دابتي ما حملتني، فإن الملل من كواذب الأخلاق. ترى لو نجونا من الملل وكواذب الأخلاق الأخرى في التعامل مع الأشياء من ساعات وسواها كم سوف نحسن إلى أنفسنا في ديننا ودنيانا على السواء؟
إن حسن التعامل مع الأشياء نوع من الشكر، والشكر يحفظ النعمة ويستدعي المزيد، وصدق الله العظيم ﴿ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ ﴾ [إبراهيم-7].