الوهن
نبض الحروف
الطيب عبد الرازق النقر
الجامعة الإسلامية العالمية بماليزيا
لا أدري حتى متى ننقاد للهوان، ونستسلم للامتهان، حتى متى يظل قتل الأبرياء العزل، وترويع الامنين، في حواضر كردفان، وبيادر دارفور، قصص تتناقلها الأفواه، وتتحدث بها المجامع، بل حتى متى تظل العصبة الحاكمة تمضي في هذا الغثاء مع شيعة الباطل، وطواغي الغي، وضواري الفتنة، فالبون شاسع بين ايمان المؤتمر الوطني الراسخ في المفاوضات التي تتطلب نقاء القلب، وصفاء الروح، وسلامة النية، وبين أهل العقم والنضوب الفكري، الذين لا يرون الظفر إلا في انتهاك الحرمات، وازهاق الأرواح، وتدمير العمران، بعد هذه الصور المفجعة التي كحلت المقل بالسهاد، وسلطت الأحزان على الفؤاد، ليس من الغلو ولا من التشاؤم ولا من تثبيط الهمم في شيء أن ندعو لمقاطعة تلك السلسلة الطويلة من المحادثات التي لم تفضي إلي شيء مع من تفاقم شرهم، واستطار أذاهم، لقد حرصت حكومتنا الرشيدة أن تدحض أباطيل الغرب، وتدفع مفترياته، حتى لا ترمى بوصمة العسف والجور، لأجل ذلك نراها تصفح عن الزلات، وتقيل العثرات، وتطيل المباحثات، حتى ترفع عن عاتقها سبة الطغيان، وعن كواهلنا نصب الحظر الذي تفرضه علينا الامبريالية البغيضة، ولكن أذهاننا لا تسيغ أن دول البغي والاستكبار سوف تتدفق على منابرها كما يتدفق السيل في منحدر الوادي، لتدين هذا العدوان الغاشم، وتقمع تلك الحركات المتخلفة العجفاء التي تلقى منها كل دعم وسخاء، كما لا أحسب أنها سوف تخص المؤتمر الوطني بعبارات التقريظ والثناء إذا أصرّ على موادعة مطايا الخطيئات، وزوامل الأثام، ومقارضتهم الحديث في أديس أبابا بعد كل تلك الوقائع.
لقد أضحى الأمن طلباً معتاصاً، وابتغاءً معجزاً، في كردفان الغرة، ودارفور الأبية، ولم تفعل حكومتنا المشبل حيال هذا الأمر شيئاً سوى أنها بسطت دعوى لم تقم عليها دليلاً، دعوى أود أن أقف أمامها موقف القصد والإنصاف والإعتدال، فنيفاشا التي نماها المؤتمر الوطني وتعهدها وأكثر من الاعتماد عليها، هي الني جعلت من قطاع الشمال المشنوء الذكر مستبد صاحب تاج وصولجان وعرش وايوان، نعم نيفاشا وحدها هي التي كفلت لتلك الفئة ذات السلائق الزفرة، والشمائل القذرة، صنوف الجدل، وضروب النضال، فلولا نيفاشا لم تبغي تلك الناجمة أو تستطيل، فمن يقدم الوقود للنار لا ينكر عليها الاشتعال، ولعل الحقيقة التي لا يرقأ إليها شك، والواقع الذي لا تسومه مبالغة، أن السواد الأعظم من هذا الشعب لم يستطيع استيعاب كتاب نيفاشا إلا بمشقة وعناء، رغم أنها أوقفت سعار الحرب، ولكنه لم يقر أبداً بأنها شمس بددت العتم، أو فجر أجلى الظلام، ربما لأن بنودها اتسعت لألوف الواغلين، أو لأن الحركة الشعبية جنت منها أزهار ورياحين، فمن خطل الرأي أن يرواد الأمل سادتنا في أن تتناسى تلك الجموع المنكوبة كروبها الداجية في مروج نيفاشا الفيحاء.
لقد دفعتنا الأحداث الأخيرة التي أضنت وجداننا، ونالت من كبريائنا، في أم روابة وأبوكرشولا وما قبلها من مخزيات، إلي عقيدة ثابتة تذهب الرّوع، وتأمن الجناب، وتقلم أظافر أصحاب النحل الخبيثة، والمطامع الخسيسة، الذين يصدر عنهم كل فساد، وينجم منهم كل شر، عقيدة تشفينا من الاحساس بالغبن والامتعاض، وتدفع عنا الشعور ببوادر الاذلال كلما اجتمع شمل الحكومة بأهل الفرقة والزيغ، ذلك الرهط الذي يقابل البر بالعقوق، والوفاء بالغدر، جدير بأن نمنحه بغضنا في غير تحفظ، ونغالي في عدواته في غير اقتصاد، فهو لن يسبح مطلقاً مع تيار السلام الذي تنشده الحكومة وتمخر في عبابه، لن تجدي مع ذلك القطاع سوي المخالب الحداد، والانياب العضل، ما نريده من أهل السيادة، وأولوا الفضل، الرعاية الدائمة، والكلاءة السابغة، لقواتنا المسلحة، فهي وحدها القادرة على جعل أهل المعصية والالحاد فلول منهوكة القوى، محلولة العرى، مرتهكة المفاصل، نريد من أرباب الحكم والتشريع أن يدركوا صنوف اللوعة، وضروب الكرب، وأنواع الهموم التي تجتاحنا كلما تناهى إلي مسامعنا سقوط مدينة، أو اقتحام قرية، في ايجاز نريد من سادتنا أن يبسطوا يد الجيش ويعولوا عليه، جيشنا الجسور بلال كل غلة، وجلاء كل شبهة، قواتنا المسلحة التي أدهشت الخلائق بقدرتها وصمودها وعنادها هي التي تكدر صفو شذاذ الأفاق، وشراد الأمصار، هي المؤسسة التي لا تصبر على خسف، أو تقيم على مذلة، أو تطمئن إلي غضاضة، لذا يجب أن نحرص كل الحرص على أن تبقى هذه المؤسسة الشامخة مصانة من شظايا الخلل، بعيدة عن دائرة التراشق بالقول الهراء، إن جيشنا مناقبه يرويها لسان الحمد، وماثره يذيعها بريد الثناء، فلم يحدث ولن يحدث أن يوسم جباهنا بميسم العار، أو يعصف كرامتنا بقصف الشنار، فلنبقيه يعيداً عن أقلامنا وألسنتنا، فلولاه لصارت بلادنا نهباً لكل طامع، وطريدة لكل مفترس.