حُـريَّـة ؟!

محمد عبد الكريم النعيمي

حُـريَّـة ؟!

محمد عبد الكريم النعيمي - المدينة المنورة

[email protected]

العنوان جذاب ولا شك.. هذه الكلمة ذات الأبعاد المتعددة، والتفسيرات المتشعبة، والتطبيقات المتراوحة، حيّرت عقول الفلاسفة.. واقتحمت عالم الميتافيزيقا (الغيبيات) بمساري التخيير والتسيير.. وعالم الواقع بشقي الفكر والسلوك.

 وليست هذه المقالة بصدد التصدي لمفهوم الحرية في البُعد الغيبي، الذي لا تتحمل ثِقلَ سَبرِ أغواره موازينُ عقولنا القاصرة، ولا يفيد كثيراً في واقع حياتنا هذا الإدراكُ المحال. وخلاصة القول فيه ما قال شوقي:

القضاءُ مُعضِلةٌ      لم  يَحُلَّها  أحدُ

كلما نَقَضْتَ لها      عُقدةً بَدَتْ عُقَدُ

أتعَبَتْ مُعالِجَها      واستراح  مُعتقِدُ

* * *

 قال لي صاحبي وهو يحاورني: أليس شرب الخمر من الحرية التي ننشد؟

 قلت: ولماذا يُختزل مفهوم الحرية في سلوكيات تعتورها الشوائب حتى عند من يمارسونها؟! أليست الحرية - ابتداء - شيئاً أرقى من أن ننزل بها وبمفهومها إلى هذه المنزلة؟! أليست الحرية ألصق بما يميز الإنسان ويجعل منه إنساناً وهو العقل؟ وهل للعقل في ما يذهب بالعقل مكان؟!

 قال صاحبي: هذه إجابة فلسفية.. وما زال سؤالي قائماً.

 أجبت: أرأيت إن جال مجنون في الطرقات يؤذي الناس ويخرب ممتلكاتهم ويرهب أطفالهم.. هل في إيداعِه المشفى وكفِّ شره عن المجتمع كبتاً لحريةٍ كان يمارسها؟

 وأردفت قائلاً: سأجيبك من عالم الواقع، ومن مدرسة الذين جعلوا من الشق السلوكي للحرية عبثاً وفوضى، ما الذي دفع بالحكومة الأمريكية لتتخذ قراراً بمنع بيع وتصنيع ونقل الخمور (1920 - 1933م)، رغم إباحة العقيدة السائدة له وشيوعه في ثقافة المجتمع إلى حد الإدمان المزمن؟ أليست نتائجه الاجتماعية والاقتصادية المدمرة؟

 هل من الحرية أن يتعرّى الناس ويبرزوا مواضع العِفة والفتنة من أجسادهم في الأماكن العامة - التي هي من حقي وحقهم - لأغمض عيني وأعين أبنائي عن سلوكٍ ما زالت بقايا الفطرة تستهجنه حتى في أكثر المجتمعات تفسخاً ولا أقول تحرراً؟

 أليس كل هذا اعتداء على حريتي بزعم ممارسة الحرية؟ ألا تنتهي حرية الإنسان إلى حيث تبدأ حرية أخيه؟ هل من الحرية أن يقتحم أحدهم سور بيتي - مثلاً - ليمارس حقه في "التبوّل" داخل حدود أملاكي؟

 قال صاحبي: ولكن في هذا قمعاً للفكر "المتنوّر"..

 قلت: وأين موضع "الفكر" في كل هذا فضلاً عن "التنور"؟! إن الفكر والاعتقاد حقان لا يستطيع إنسان أن يقف في وجههما إلا بفكر، ولا يزيد قمعهما في إنسان إلا شدة إيمان وتشبث، وهما الجديران حقاً بمعنى الحرية.. لا ينفع معهما إكراه.. ولا تنمو في الإنسان بذرة الشرف والكرامة إلا في ظلهما ولأجلهما، لأن مدارهما العقل البشري والقلب، وليس الغريزة الحيوانية والشهوة.

 قال صاحبي: أعجب من تشددك في حرية السلوك.. وتراخيك في حرية الفكر!!

 قلت: وهل أملك أن أغيّر من سنة الاختلاف والتدافع الفكري؟ وهل أملك أن أحاسب الناس على ما لا يمسني ويمس معتقدي ومقدَّسي وحريتي بسوء أو أذى؟

 نعم.. إن القاعدة في الشق السلوكي تنطبق على هذا الشق أيضاً.. فلا تعني حرية الرأي والتعبير والاعتقاد التعرض لمقدسات الآخرين أو الانتقاص من معتقداتهم، فضلاً عن مصادرة آرائهم وفرض رأي ما عليهم يحوّل المجتمع إلى مستنقع نفاق.

 كما أن من حرية الرأي أيضاً أن يتمكن كل ذي رأي من المجاهرة برأيه والدعوة إليه، وبالوسيلة والطريقة التي لا تهمز وتلمز برأي آخر وإن كانت على طرف النقيض منه، وإلا أفرغ معنى حرية الفكر من محتواه.

وخَتمتُ حواري بنظمٍ من وحي خاطري:

بَشَرٌ  أنا   وهُويَّتِي   حُرِّيةْ         أُسقِيتُها صَفْوَ الجَلالِ نقيَّـةْ

جَسَدِي يُقيِّدُني بطِينةِ شهوةٍ         والروحُ   مني  تَشمئزّ أبيَّـة

حُرِّيتي شَمَمٌ وعقلي مُرشدي         وكرامتي بين الأنام  جَلِيَّـة