شعب الكرامة
المستشار محمد آق بيق
قاضي سابق
الديمقراطية ثقافة وممارسة تَتَشرَّبُها الشعوب منذ الصِغر في البيت وعلى مقاعد الدرس وبالحي أو القرية ومن ثم على صعيد الحياة الاجتماعية بعد تجاوز مرحلة المراهقة.
لقد وأَدَتْ قوى الظلام التي خططت لانقلاب حسني الزعيم ومن بعده (الثورة) 23/7/1952 في مصر ومن بعده لانقلابات العراق، الحركة الديمقراطية التي تولدت أثناء خوض معارك الاستقلال ضد المستعمر ونشأت أجيال لا تعرف شيئاً عن معاني الديمقراطية وعناصرها وأسسها وأهميتها في حياة الشعوب وطبعاً لم يسمح لها بممارستها على الإطلاق.
لقد عمدت القوى العسكرية التي سيطرت على الحكم في مصر الى إلغاء كل مظاهر الديمقراطية، فحلت الأحزاب وأممت الصحف ونشرت قوى الظلام التي يُطلق عليها [المخابرات أو الأمنٍ] وأسست ما سمته بالاتحاد القومي وهو حزب صنعته السلطة من أجل أن تُصفق لها الجماهير المتأثرة عاطفياً وبالتالي خَلَقَتْ أجيالاً من الانتهازيين الذين أعجبتهم هذه السياسة فتسلقوا المراكز دونهما عناء طالما أنهم نجحوا في التقرب من المسئولين إما عن طريق الاستزلام والتصفيق أو المصالح المتبادلة.
عندما صفق الشعب السوري كله لعبد الناصر ونادى به زعيماً من أجل تحقيق حلمه بالوحدة وصوّت البرلمان السوري بكافة أطيافه عدا قلة- كان نظرها بعيداً – للوحدة والانضمام لمصر تحت زعامة عبد الناصر وذهب شكري القوتلي ممثلاً للشعب السوري وبايعه على الرئاسة ... كانت النتيجة أن كافأ عبد الناصر الشعب، الذي ضحى باستقلاله من أجل الوحدة وهو سعيد، بأن حل الأحزاب الوطنية التي تؤمن بالديمقراطية وأغلق الصحف التي لم تستطع فرنسا إغلاقها واحتكر السلطات الثلاث ونشر زبانيته وجنوده في سوريا وملأها رعباً وخوفاً في الوقت الذي كان أصغر سوري يعتبر نفسه أكبر إنسان على وجه الأرض لأنه يحمل بين جنباته ثروة لا تقدر بثمن من الكرامة وعزة النفس..
الكرامة وعزة النفس سِِمَة من سمات شعبنا لا يعرفها إلا أبناء هذا الشعب وفرنسا التي عانت طوال ربع قرن من هذه (السِمَة المقدسة).
لا الطعام ولا المال ولا الجاه أو المنصب يعادل عند المواطن السوري ذرة كرامة، فهو مستعد لأن يضحي بكل غالي ونفيس وحتى بحياته في سبيل عزة نفسه وكرامته... لذلك أبدع شعبنا شعار "الموت ولا المذلة" ولا أعتقد أن أمة على وجه الأرض تستعمل مثل هذا الشعار أو أبدعت مثيلاً له، مع الاحترام لكل أمم الأرض... ومثالها الأمم التي ناضلت للتخلص من جحيم الدكتاتورية في أوروبا وخاضت حرباً ضروساً وضحَّت بالملايين من أجل القضاء على هتلر وموسوليني وما يمثلانهما من ديكتاتورية وعنجهية وتكبر وحب للتسلط...
ورغم ذلك لم نسمع أو نقرأ أنهم رفعوا مثل شعار "الموت ولا المذلة".
وحده الشعب السوري من بين شعوب الأرض الذي يستمرئ الموت ومن قبله الجوع والعطش والعري والعذاب على أن تهان كرامته...
ورغم ثورة الشعب ضد الديكتاتورية في 28/9/1961 في الحركة التي أطلقوا عليها ظلماً (الانفصال) ورغم أن كل أطياف الشعب بما فيهم الأحزاب اليسارية مثل البعث والشيوعيين والقوميين السوريين والقوميين العرب قد أيدوا حركة الضباط والشباب ضد الديكتاتورية ورغم أنهم يعرفون تماماً لماذا قام هؤلاء بحركتهم وما هي دوافعهم ويعرفون أن عبد الكريم النحلاوي ورفاقه كانوا وما زالوا من أشرف رجال سوريا خُلُقاً وحباً لوطنهم، إلا أن البعث وبعض القوميين تآمروا على الفترة القصيرة التي نَعِمَت فيها سوريا بالديمقراطية وقاموا بانقلاب 8/3/1963 حيث عاد عصر الظلام لسوريا....
لقد قام البعث بحل الأحزاب كل الأحزاب وحل البرلمان وأقال رئيس الجمهورية المُنتخب الدكتور ناظم القدسي ووضع الضباط الشرفاء في السجن وأعاد عجلة البناء عشرات السنين للوراء عندما أمم الشركات والمصانع والمؤسسات التجارية الناجحة وصادر بعضها وطبق الإصلاح الزراعي تطبيقاً غبياً ظالماً دون دراسة أو تخطيط وعزل السياسيين وسرح أكثر ضباط الجيش الشرفاء حتى أولئك الذين لم يشتركوا في حركة 28 أيلول 1961 وأحل محلهم ضباط احتياط من أساتذة المدارس من البعثيين وعزل أو سرح أو (طفّش) خيرة أساتذة الجامعات بحجة أنهم رجعيين وكلهم ممن درسوا في أرقى جامعات العالم....
وهكذا حكم البعث على الشعب بالموت البطيء وكانت خاتمة الأثافي سيطرة فئة معينة من طائفة معينة على مفاصل الجيش والدولة وتربع (باب) هذه الطائفة العرش منذ عام 1972 وَوَرّثه لابنه من بعده....
لم يكن الشعب السوري غبياً بحيث لا يعرف ما يجري ولم يكن ساذجاً حتى يرضى بما جرى ... ولكنه أراد استعمال الحكمة التي يتقن استعمالها عند اللزوم وكان يداري النظام وبنفس الوقت كان ينصح ويساهم في بناء الوطن قدر المستطاع وكان همه مصلحة وطنه وليس المنصب أو الجاه....
وكان هناك دائماً بصيص أمل من خلال بعض الشرفاء من رجالات الحكم....
ومع ذلك، كان الشعب يراقب بعين ثاقبة ما يجري وكان مستاءً من تفشي الرشوة ثم الفساد...
ومستاء من فساد القضاء بحيث لم يعد صاحب الحق يحصل على حقه إلا إذا دفع ثمنه...
ومستاء من التفرقة في توسيد المناصب....
ومستاء من التدهور الاقتصادي نتيجة الفساد وسوء الإدارة والتخطيط.
ومستاء من سيطرة طائفة معينة على الجيش وانتشار الفساد والظلم فيه وتحكم ضباط هذه الفئة بالمجندين والجنود وحتى الضباط من طائفة الأكثرية وقبضهم الرشاوى وسرقة مؤونة الجيش وتشغيل الجنود كعمال (سخرة) في مزارعهم وقصورهم وكمثال بسيط: في الكتيبة المؤلفة من خمسمائة فرد إذا كان التموين لها خمس خرفان يومياً، فإن ما يُطبخ منها خروف واحد والأربعة يأخذها الضباط من ذوي الحظوة الى بيوتهم...
ثم ومن بعد عام 2005 ظهر أقرباء الحاكم على السطح وبدأو بالسيطرة على الاقتصاد وفرض الخوة (والسلبطة) والشراكة بلا رأس مال على كل المشاريع التي يريد المستثمرون إنشاءها في سوريا .
كنا نشعر نحن المغتربون أن كل مليون ليرة نرسلها لسوريا فإنها ستساهم في إطعام عدد من الأسر المحتاجة... لذلك عملنا على تشجيع الاستثمار الى أن صُدمنا وصدم العديد من المستثمرين العرب والأجانب [بالشريك المفروض] فكان أن امتنع الناس عن الاستثمار واستعاض أقرباء الحاكم المرضي عنهم والموافق على تصرفاتهم من قبل (الحاكم) نقول بدأوا في استخدام بعض التجار المحليين كشركاء (واجهة) ودفعوا لهم الفتات وسيطروا على الاقتصاد.
قد يظن البعض أن الهدف من سماح السلطة لفئة معينة من طائفة معينة بالسيطرة على الاقتصاد السوري هو الربح وتجميع المال، ولكن وللأسف وضحت الحقيقة وهي أن النظام الطائفي للعظم يعتبر المال قوة فكما سيطر على الجيش والأمن ومفاصل الدولة فإن عليه السيطرة على المال حتى لا يدع أي نوع من أنواع القوة بيد غيره بحيث يمكن أن يستفيد منها لمقاومته....
وهذا يفسر كيف أن أبواب كل المسئولين من رئيس الجمهورية الى رئيس الوزراء الى الوزراء الى المحافظين تُفتح لأحد المستثمرين الأجانب وعندما يدخل (الأقرباء) على الخط ويرفض المستثمر تطبيق شروطه فإن كافة الأبواب التي كانت مفتوحة تًُغلق كل ذلك والشعب السوري صابر ويحاول بشتى الوسائل ابتكار وسائل أخرى كي يستثمر أمواله سواء في الداخل أو الخارج، والأمور سائرة بقوة الاستمرار الى أن ارتكب النظام خطيئته الكبرى وهي إهانة كرامة الشعب ممثلاً برجالات درعا الأشاوس....
لقد رَكِب الغرور النظام فعميت أبصاره وقلوبه عن معرفة حقيقة الأمور فارتكب الخطيئة القاتلة عندما أهان كرامة رجال شرفاء أعزاء يمثلون شريحة هامة من شرائح المجتمع السوري الأبي...
هل أن النظام يجهل طبيعة الشعب السوري؟ لربما، ولكن الأكثر أنه يعرف ولكن التكبر والتجبر قد سيطر عليه فأعمى عيونه كما ذكرنا و لم يعالج الموضوع بحكمة وعقل راجح وهكذا وقع في شر أعماله وانفجرت الثورة في سوريا وما زالت...
قد يقول قائل لقد مضى على ثورة الشعب التي بدأت سلمية ثم أجبرها النظام بتصرفاته الرعناء على أن تصبح مسلحة في بعض أوجهها ستة عشر شهراً حتى الآن وهي تزداد عنفواناً وقوة رغم ازدياد البطش والقتل والتدمير والاعتقال والتعذيب والإخفاء والتشويه والمجازر الجماعية ولكنها للأسف لم تستطع الانتصار وقد يكون الطريق طويلاً.
وظن الشعب أن العرب سينجدونه والمسلمين سيساعدونه والغرب صاحب القيم الأخلاقية سيهب للوقوف بوجه الظلم والبربرية الوحشية التي يمارسها النظام.
ولكنهم جميعاً لم يصلوا بأفعالهم الى مرحلة مواساة أم ثكلى بفقد ولدها الوحيد على يد شبيحة النظام.
نقولها والألم يعصرنا ولكن لربما ضارة نافعة!!!
لقد أيقن شعبنا بملايينه العشرين أنه لا ملجأ له إلا الله ولا سبيل أمامه إلا قوته الذاتية فقرر المضي بثورته حتى النصر حتى ولو ضحى بخيرة شبابه وفتيانه على مذبح الحرية والكرامة.
يا أبطال سوريا الأحرار، رجالاً ونساءً ، شيباً وشباناً، طلاباً وطالبات، عمالاً ومزارعين ، نجاراً وصناعيين، حرفيين ومهنيين، محامين وأطباء، مهندسين وصيادلة وكيماويين..... إن ثورتكم تخيف العالم.... العالم الذي تحكمه قوى الظلام الخفية، العالم الذي يكره الصبح وإشراقته البهية، العالم الذي يُظهِر غير ما يُبطن ... العالم الذي أذهلته شجاعتكم وتضحياتكم....
إن ثورتكم الفريدة من نوعها ستكون نبراساً يضيء الطريق أمام كل المقهورين، ستكون مثالاً يحتذى لكل الشعوب المستعبدة وستكون نوراً يعيد إضاءة قيم السماء التي أنزلها الأنبياء على شعوب الأرض فنسوها وشغلتهم مصالحهم الضيقة عن معرفة أسرارها وأهميتها .
يا شعب سورياً العظيم ، إنك بملايينك العشرين تسطر أروع ما جاءت به البشرية في العصور الحديثة كي يضع التاريخ ثورتكم على مستوى واحد من الثورة الفرنسية والإصلاحات الديمقراطية في بريطانيا وثورة الاستقلال في أميركا....
يا أبناء سوريا الأحرار ، يا بنات سوريا الحرائر، وحدوا صفوفكم واجعلوا من دماء شهدائكم أواصر شد تشدكم لبعضكم فتوحدكم وتؤاخيكم وتجعل منكم جسداً واحداً من أقصى منطقة في أقصى شمال سوريا حتى أبعد نقطة في جنوبها ومن شرقها الى غربها....
يا أبناء وطني الأشاوس فلتعلموا أنكم في حربكم ونضالكم إنما تفتحون أبواب النصر للحق والعدل والرجولة والشهامة و العزة والكرامة....
إنكم تحاربون قوى الشر والظلام بأجسادكم العارية.....
ولتعلموا علم اليقين أنه على مرّ التاريخ لم ينهزم الخير أمام الشر ولكن العكس هو الذي حصل، إن عناصر نصركم في إيمانكم ووحدتكم وحبكم لبعضكم وبيعكم لأنفسكم وتآلفكم وتكاتفكم وتعاونكم على الخير ونبذكم للفردية والأنانية وإيمانكم بالعمل الجماعي وتوسيد الأصلح عليكم والتحلي بالصبر وكرم الخلق...
إن شعباً عمره أكثر من عشرة آلاف عام... كان أول من علم الناس الزراعة وأعطاها الحرف ونشر التجارة السلمية على بجار وشواطئ العالم القديم وعلّم الناس حب التعامل الشريف....
إن شعباً يتمتع بالذكاء وروح المبادرة والإبداع وحب العطاء والتسامح وحب الخير لا يمكن أن يموت ولا يمكن أن تنجح عصابه مهما أوتيت من قوى المادة ومهما دُعّمت من قوى الشر في القضاء عليه وإطفاء جذوة الحق فيه.
لقد أتى أمر الله فلا تستعجلوه.
وقل اعملوا فسيرى الله عملكم والمؤمنون.