استثمار المحنة
استثمار المحنة
يسري الغول
ألح في دعوتنا، وعاتبنا عن تأخرنا كل ذلك الوقت، فهو في انتظارنا مذ وصلنا كوالالمبور. فقمت وبعض زملائي بالتوجه لمطعمه مساءً، وجلسنا في حضرته. تناولنا طعام العشاء وازدردنا الأحاديث حول غزة وآرائنا بماليزيا مع كل لقمة دخلت أفواهنا، إلى أن بدأ يتحدث عن تجربته الماليزية. لحظتها توقف الزمن، وتوقنا عن تناول الطعام، كأننا في حلم. كأنه يهذي أو يصطنع الحكايا. أو كأنه يقرأ جزءاً من ألف ليلة وليلة. فقررت أن أعود وحكايته معي في دفتري.
قال والوجوم يلفنا: كانت غزة قد انقلبت رأساً على عقب، واشتد الحصار في كل الربوع، ولا يوجد فرصة للعمل، فقررت السفر انطلاقاً نحو مشروع هجرة إلى أوروبا. وفعلت، عانيت ما لا يمكن تخيله حتى أدخل الأراضي المصرية، ثم انطلقت منها إلى أوكرانيا، حيث أمتلك إقامة للعيش هناك فزوجتي تحمل جنسية الدولة ذاتها، وقد كانت الاضطرابات قد وصلت أوكرانيا أيضاً، فأوقفوني في المطار وتم تعامل معي وزملائي كخطر قادم للغرب، رغم أن جميع الوثائق والإقامات رسمية، فأعادونا ثانية إلى القاهرة. وهناك احتجزونا بغرفة الترحيلات في المطار لمدة أسبوعين في انتظار فتح معبر رفح، والأوضاع تضطرم، والنزلاء يكثرون في غرفتنا، حتى جلس إلى جانبي ذات مرة عجوز وأثناء حديثنا سألني: لماذا لا تذهب إلى ماليزيا؟ فأجبته بأنني لا امتلك فيزا لتلك الدولة، وكانت إجابة الرجل بأنه لا حاجة لذلك، حيث يسمح للفلسطينيين التوجه لماليزيا دون الفيزا. وحينها لم أتردد فطلبت من الشرطة أن تحجز لي أي طائرة متوجهة إلى كوالالمبور، ووصلت، وهناك مكثت عدة أيام متنقلاً بين الفنادق والمال ينفذ وينفذ، حتى التقيت ذلك الجزائري الذي ساعدني بالنزول في غرفة عند أحد الهنود بمبلغ زهيد، وكان قد قام بتسريح أحد موظفيه، فطلبت منه أن يبيعني عربة الفلافل التي يملكها، واكتريتها، وبدأت أتعلم وأسأل كيف أصنع الفلافل حتى نجحت فانتقلت لمكان أكبر وآخر أكبر إلى عمل أكثر ربحاً، وصار اسمي معروفاً في كوالالمبور كأحد أكبر المطاعم الفلسطينية، والحمد لله افتتحت قبل أيام مقراً جديداً في بوتراجايا.
القصة تطول، وتفاصيلها كثيرة، لكنها حيوية، مدهشة، وأكثر ما أثارني فيها، أنه رغم كل المال الذي ورثه صاحبنا في غزة، قرر ألا يعيش في جلباب أبيه، فاستثمر اللحظة الصعبة وبحث عن ذاته في معترك الحياة ليصنع تجربة تستحق التقدير والاحترام.