ربانية الإخوان سر التماسك والبقاء
د. وصفي عاشور أبو زيد
تشكلتْ في مرحلة ما قبل الثورة كياناتٌ متعددة، وتكونتْ – ولا تزال تتكون – بعد الثورة أحزاب وحركات متنوعة ومتباينة من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، وهذه طبيعة الحياة السياسية والاجتماعية قبيل الثورات، وبعدها مباشرة، وسرعان ما يتلاشى كثير من هذه التشكيلات، ولا يبقى للحياة السياسية إلا الأحزاب الجادة القوية، ولا يبقى للحياة الاجتماعية إلا المؤسسات والهيئات الفاعلة والمؤثرة.
واللافت للنظر في هذه التشكيلات والأحزاب والحركات التي قامت – في مجملها إلا قليلا – أنها سرعان ما تضعف أو تنزوي، أو تتلاشى، أو تتفجر من داخلها، وإن بقي الكثير منها فلا يكون له تأثير حقيقي في الحياة السياسية أو الاجتماعية.
كما أن اللافت للنظر أيضا أن كيان الإخوان كجماعة - وحزبها بما هو امتداد لها – هي الكيان التنظيمي الوحيد - تقريبا - الذي بقي متماسكا متأبِّيًا على الانفجار أو الزوال، ليس لمدة عشر سنوات أو عشرين سنة، وإنما لأكثر من خمسة وثمانين عاما رغم الضربات التي تلقتها، والملاحقات التي طاردتها، والتضييق الخانق عليها، ومصادرة حريات أفرادها وحرمانهم من حقوقهم الطبيعية؛ فضلا عن الذي طورد وطُرد من بلده ووطنه؛ ليعيش مغتربا في بلاد غير البلاد، ووطن غير الوطن!
أقول رغم هذا كله بقي كيان الإخوان متماسكا وقويا وباقيا في الوقت الذي تتهاوي فيه كثير من التنظيمات والحركات حولها، تلك الحركات والتنظيمات ذات العمر القصير التي لم يمر عليها عقدان أو عقد أو خمس سنوات، أو شهور من الزمان.
وأحسب أن سر هذا البقاء هو عنصر الربانية الذي تتميز به دعوة الإخوان المسلمين، ولعل البعض يفهم من ربانية الدعوة أنها وكيلة الله في الأرض! أو لا تخطئ أو أنها معصومة، فلكل أخطاؤه وعثراته بل خطاياه، ولكنني أعني هنا عنصر الإيمان "الحي" – نعم الحي - الموجود في القلوب على مستوى الأفراد وعلى مستوى الجماعة؛ إذ الجماعة من الإسلام تستمد، وإليه ترجع، وعليه تعول، وعنه تصدر في تصرفاتها واختياراتها، فهذا هو الحاكم لها، والضابط لحركتها، وهذا هو المحرك لفعلها وعملها، وهذا هو الغاية من الحياة عندها "الله غايتنا"، أو هكذا يجب أن تكون!
إن هذا العنصر الربانية الإيمانية؛ سواء كانت ربانية في المصدر والمنهج، أو ربانية في الغاية والوجهة هو الذي أثمر ويثمر عنصر الأخوة الذي يورث الإيثار؛ فيجوع المسلم ليشبع أخوه، ويعطش المؤمن ليروَى أخوه، ويحرم الأخ نفسه ليعطي أخاه ما يحبه وما يسره، وما يغنيه، وما ينير له الطريق ... وهذا هو هدي النبي صلى الله عليه وسلم الذي بنى عليه المجتمع الأول في الإسلام.
إن هذه المادة الأساسية "مادة الإيمان"، و"مادة الأخوة" هي سر بقاء الإخوان وتماسكهم رغم ما لاقوه ويلاقونه الآن، وقبل الآن، وسيلاقونه بعد الآن، وهذا ما أستطيع أن أجزم بعدم توافره بهذا القدر لأي فصيل اجتماعي أو سياسي موجود على الساحة.
لقد أتت أنظمة ظالمة طاغية مستبدة، وتغيرتْ على الإخوان، وأذاقوهم ألوان العذاب والتنكيل، وأصناف الأذى والاضطهاد، وزالت هذه الأنظمة وبقي الإخوان بفضل الله تعالى ونعمته عليهم، ثم بفضل تماسكهم ووحدتهم الروحية والفكرية، وقوتهم التنظيمية والحركية، وغايتِهم المنشودة التي دائما تشدهم وتهوّن عليهم ما يلاقونه من جهد وجهاد، وما يقدمونه من عطاء وتضحيات؛ فإن الغاية الشريفة تعلي الهمم، وتشد العزائم، وتحيي النفوس، وتنير القلوب.
وهذا ما يوجب علينا الحفاظ على هذه الربانية، بأداء حقها؛ تعزيزا لهذا الإيمان، وتوحيدا للصفوف، وتعميقا لروح الإخوة التي لا يشعر بها إلا من ذاقها، ومن ذاق عرف، ومن عرف اغترف، "وتزودوا فإن خير الزاد التقوى".