برء الجراح.. في الثبات والشموخ والصبر
محمد السيد
قال تعالى: (( ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين ونبلوا أخباركم)) محمد:31
وتفتح الجراح بواباتها مشرعة فوق أرض الإسلام، وداء العدوان الشرس يأكل تضاريس الأوطان، والمسافات بين الجرح والأمل تتسع، وباسم الواقعية تشتد دعايات الضياع، على وقع مطر النار، وعلى أنغام الهزيمة التي ضيع الداعون إليها الطريق، فتاهوا في دهاليز دعاوى الغاصبين، فترى وتسمع ممن ادعوا العلمانية والليبرالية كلاماً عجباً، ودون أن نعين الأسماء أو نحدد المعنيين، نقول: لقد ضيع أولئك المنطق، يوم انتموا إلى علمانية وليبرالية نابذة لهوية الأمة، لا ترضى ولا توافق إلا على انتخابات أو اختيارات تصب في صالحهم؛ تأييداً لما يريدون ويؤمنون. أما أن تأتي النتائج والاختيارات لتصب في غالبيتها في سلة الإسلاميين، فذلك القول فيه معدٌّ مسبقاً.. لا للون الواحد.. لا للديمقراطية لمرة واحدة.. لا للإقصاء.. إلا لمن يعيدها جذعة.. ديكتاتورية بنكهة إسلامية إقصائية تفردية، فلنعد تشكيل الهياكل، ولننقض كل شيء، وليكن ما يكون، ولنضع العصي في العجلات، فهم بهذا يساومون على هدم الأحلام قبل أن تكون واقعاتها قد أشرقت شمسها، ويركبون وسائل الإعلام المنحازة لحضورهم في الحق والباطل، ثم يكيلون القول المتخم بالادعاءات والمفتريات ضد الإسلاميين، وضد الإخوان المسلمين بالذات، فمن سيل من الأكاذيب المدعاة عن استفراد اللون الواحد، إلى التهوين من دور الإخوان في الثورات، وحتى الاتهام بالعمالة للجهات والدول التي ظلت على مدى الزمن ومازالت ترى في الإخوان أحد الجدران العصية على الاختراق، الذي يعزز غزواتهم ومحاولاتهم للهيمنة على ثروات أوطاننا وترابها، وخصوصيات شعوبنا. وإنك لترى في المكونات المتعالمة المنتمية إلى الليبرالية شكلاً، أنها هي المنافحة عن فكر الغزاة واجتهادهم ميدانياً وعملياً، وهم الذين فتحوا الثغرات الكثيرة التي تسللت منها كل الغزوات الغادرة لهذه الأمة، سواء كان بقصد هؤلاء أم بغير قصدهم وإرادتهم.
أيها المكلوم ابحث في دواخلك، وفتش المسافات بين أضلعك، لعلك تطلع على شيء من الزمان النوراني، يسعد قلبك، أو تعثر على حلم قريب، يقبع في زاوية من زوايا فؤادك، يعدك بالصبر، أو يحثك على الثبات والمضي في تغذية الجرح بشموخ أهل أُحُد.. فأنت تعلم بحكم وجودك في قلب النار أن لا خيار لك ولمن معك إلا بالثبات الرسالي الشامخ فوق القهر، الذي لخصه الأنبياء بقولهم عند كل محنة: (حسبنا الله ونعم الوكيل)، اقتباساً من قول ربهم في وصف الثابتين: ((الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيماناً وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل)) آل عمران:173 "قالها إبراهيم عليه السلام عندما ألقي في النار، وقالها محمد صلى الله عليه وسلم"، في الحديث الذي رواه البخاري. وقالها رب العزة وصية منه لنبيه وللمؤمنين: (( فاصبر كما صبر أولو العزم من الرسل ولا تستعجل لهم)) الأحقاف:35، وقالها لقمان لابنه يوصيه: (( واصبر على ما أصابك إن ذلك من عزم الأمور)) لقمان: 17.
يا صاحب الجرح فوق بطاح بيت المقدس وما حوله، ويا صاحب الجرح في العراق الصابر، ويا صاحب العزم والشكيمة في سورية الصابر المرابط، إنك في مقام المبلغ عن ربك، المدافع عن دينك وأرضك وعقيدتك وشعبك، وما دمت تتبوأ هذا المقام فأنت مدعو لتتعزى بصدق الالتجاء إلى آيات ربك، وتوجيه رسولك، وليس بإلقاء الآذان إلى همسات من باعوا واشتروا.. فربك عز وجل يهنئك بقوله: ((يجاهدون في سبيل الله لا يخافون لومة لائم)) المائدة:54، ويناديك بقوله عز وجل: ((الذين يبلغون رسالات الله ويخشونه ولا يخشون أحداً إلا الله وكفى بالله حسيباً)) الأحزاب:39، وهو يعزيك بقوله جل وعلا: ((ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات وبشر الصابرين)) البقرة:155.. وها هو رسولك الكريم صلى الله عليه وسلم يقول لك: "عجباً لأمر المؤمن إنّ أمره كله له خير، ليس ذلك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سرّاء شكر، وإن أصابته ضراء صبر، فكان خيراً له" رواه مسلم. وقال أيضاً: "إن عظم الجزاء مع عظم البلاء، وإن الله تعالى إذا أحب قوماً ابتلاهم، فمن رضي فله الرضا، ومن سخط فله السخط" رواه الترمذي وقال حديث حسن.
وهكذا فأنت ترى أن بُرء الجرح لا يكون إلا بخيار الثبات والشموخ والصبر؛ الصبر على الأدواء، وعلى حرّ الابتلاء بالأعداء، وعلى مقارعتهم بالجهاد، والصبر على مستحقاته، والترديد مع الشاعر المجيد:
لولا مخافة صحـوتي ما أجمعـوا أن يمنعوا الإشراق عن حدقـاتي
أنا ثورة التاريخ جئـت أعيـده قممـاً ترتـل للعـلا آيـاتي
أنا سلم هذا الكون أفترش الردى لأرى الحياة تمـوج بالبسمات
ليعيـش أطفـالي غـداً متألـقاً عطـراً كأنفاس الربى العطرات
(ولنبلونكم) ، فالابتلاء قدر مقدور، ((فإنهم يألمون كما تألمون وترجون من الله ما لا يرجون)) النساء:104، أيها المؤمن فواجههم بشعارك الخالد: "قتلانا في الجنة، وقتلاكم في النار"، وزيّن الساحة أيها المبتلى بنور يقين صبرك وثباتك، وتوكأ على فيض يقينك، فهما خصلتان ترودان خاطرك: شهادة أو نصر، وهما الحسنيان، ومسك الدم الطاهر هو العشق الطاهر، الذي يبعث الحياة مضيئة فاضلة كريمة، فالأوان أوان البذل والفداء والعطاء، وليس أوان الندم والخذلان، فلكل وقت أدواته ومناهجه ورؤاه، وقلب الأمور لا يحقق إلا مناهج الأعداء وهو كما قال المتنبي:
ووضع الندى في موضع السيف في العلا مضر، كوضع السيف في موضع الندى
والابتلاء امتحان وتمحيص، يضع المسلم في مكانه الذي يستحقه: ((ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين ونبلوا أخباركم)) محمد:31. نعم، ليعلم: المؤمن المخاطب أول ما يعلم أهو مع أصحاب "الميكروفونات"ونزلاء الفنادق الفخمة، المتطلعين إبداً إلى المناصب والمراتب، بتشكيل الحروف على هيئة الخديعة، وترتيبها بحيث تصطف في خانة الهزيمة، معبأة بمرايا الوجوه المدججة بالكذب والحيلة..؟ أم أنه صاحب القلب الصلد، الذي يعرف الحقيقة، يستقيها من سورة التوبة، تدفع بالفهم والبذل والفداء أمواجاً تلو أمواج، لتسكن في أرجاء الواعين بنادق وجهاداً وقلوباً لا يتطرق إليها الخوف إلا خوف واحد يحدوهم بحداء: ألّا تؤخذ الأوطان والإسلام وأهل الإسلام من قبلهم..؟ فهم يعلمون علم اليقين أن أخبارهم هي الأخبار، وأن وقفتهم هي التي تنكأ الجراح في قلوب الأعداء، وأن ثباتهم وبرء جرح الأمة لا يكونان إلا عندما تهتز السواعد كلها مع سواعدهم، فيصمت الجميع عن تسويق الكلام الذي تزخرفه مرايا الوجوه المدججة بالكذب والحيلة، ثم يمتشقون قلب الحياة، ليعطوا الموت حقه الغالي، موتاً تهتز من غدقه الأرض وتربو، فيخرج الزرع، ويمتلئ الضرع، وتستريح الأيام، وتستقيم الرؤى، وبذلك تسودُّ نهارات جحافل الغدر والطغيان والتوحش، عندما يمحضهم الفرسان من لظى صمودهم ميتة الجيف ، وعبأوا ساعاتهم برعب صنعته تحفزات الأسود، فضربت به قلوب الواهمين، الذين ظنوا ساعة من نهار أن سيوفهم المثلّمة سوف تُقعد الفرسان، أو تُقنع العموم بمشاريعهم المسمومة بمناهج لم تفلح أصلاً في إقالة عثراتهم، بل هي تقودهم رويداً رويداً إلى حتفهم، كما قادت خيبات نظراتهم في الشرق إلى انهيار مدوٍّ، لم يبك عليهم جراءه أحدٌ، ولا أغاثتهم السماء بمدد.
وليكن بعلم الجيمع أن الجراح التي تمتد على مدى البصر من أوطان المسلمين، فتغرق الأرض منها بالدماء الطاهرة البريئة، تهريقها أيد آثمة مجرمة معتدية، وتساعد في سفحها حناجر وأقلام مشبوهة، تدعي الانتماء إلى هذه الأمة، مختفية خلف شعارات الواقعية والمصلحة العامة هاجمة على الإخوان المسلمين هجمة مأجورة مفتعلة، مدّعية التعقل، لكننا نؤكد أن العاملين في تلك الهجمة ليسوا إلا خدماً في جوقة تحاول تخريب ثورة سورية المباركة، يصرخون بأصوات لا نظن إلا أنها خادعة مخادعة مدفوعة_ تقول كذباً وبهتاناً_ إن انسحاباتهم المفتعلة من هذا الكيان أو التشكيل، أو ذلك الانتخاب، ليست احتجاجاً على تلوين مؤسسات المعارضة السورية بلون واحد، بل إنها هجمة لا نظن إلا أنها متحالفة مع (أجندات) غير سديدة، لا تريد أن ترى الإسلاميين ولو كانوا معتدلين، مشاركين في صنع مصير الأمة، مع أن حضورهم في الثورات وفي تحقيق انتصارها كان حضوراً فاعلاً مخلصاً، لولاه لم تنجح الثورات؛ فالإخوان ليسوا متطفلين، إن الإخوان منذ ستين سنة هم الصوت الأقوى في وجه الطغاة، تحملوا في ذلك الإقصاء والاضطهاد والتشريد، وحتى القتل.. بينما كان هؤلاء المتبجحون اليوم يتمتعون بفتات الحكام، محرضين بصورة مباشرة أو غير مباشرة على الإخوان.. ثم أتوا في آخر الزمان ليدعوا أنهم هم كل شيء.. أفلا يتذكرون؟! لكننا نؤكد أن هذه الجراح لا تبرأ ويصح ببرئها الجسم العام إلا بثقافة الثبات والصبر والجهاد والمجاهدة، وكل كلام غير هذا علمنا التاريخ أنه هزيمة داخلية وتسويق ذليل لأجندات الأعداء ، وصدق الله العظيم القائل: ((ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين ونبلوا أخباركم))..