الفتح العربي والإسلامي لجزيرة كريت...
كريت وباليونانية كريتي هي أكبر الجزر اليونانية وخامس أكبر جزيرة في البحر الأبيض المتوسط. وهي تطل على بحر إيجة، ومنها جاء الفلسطينيون الذين سكنوا في فلسطين في القرن الثالث عشر قبل الميلاد. أطلق عليها العرب منذ القرن السابع الميلادي اسم "إقريطِش"، وعرفت عند الأتراك العثمانيين باسم "كريد" بالدال لا بالتاء، كما أنهم لفظوا الكاف جيمًا مصرية، والنسبة إليها كريدلي؛ أما الأتراك اليوم فيسمونها "جِريت" والنسبة إليها جريتلي. كانت عاصمتها مدينة كانديا (الخندق) وهو اسم أطلقه العرب الأندلسيون عندما حكموا كريت، أما عاصمتها اليوم فهي مدينة "هرقليون". والجزيرة قريبة من السواحل العربية في مصر وشمال إفريقيا لذا طمع العرب في احتلالها لكسر الحصار الجزئي الذي فرضته الدولة البيزنطية(الروم) على التجارة البحرية والملاحة في البحر الأبيض المتوسط. لقد جعلت هذه الدولة منفذًا واحدًا للتجارة مع المسلمين في ميناء طرابيزون على شاطئ البحر الأسود وسمحت للتجار المسلمين في الوصول إلى القسطنطينية لكنها منعت تجار البندقية من الوصول إلى الموانئ العربية في مصر وسورية وشمال إفريقيا، والأنكى من كل ذلك، ولأسباب سنوردها لاحقًا، راحت تهاجم مدن الساحل في مصر مسببة أضرارًا جسيمة في الممتلكات والأرواح. في هذه الحرب الطاحنة لعب عرب مهاجرون من أهل الأندلس دورًا مهمًا في الاستيلاء على جزيرة إقريطش، وبذلك فكوا الحصار الجزئي على التجارة عبر البحر الأبيض المتوسط.
فتح العرب الأندلسيين لجزيرة كريت:
تشير المصادر إلى أن عربًا كثيرين من الأندلس هاجروا بعد اختلافهم مع الحكم الأموي هناك، ووصلوا بطريق البحر وعلى مراحل إلى مدينة الإسكندرية بمصر، ونجحوا في بداية عهد الخليفة العباسي المأمون في السيطرة على هذه المدينة. يُقدّر عدد هؤلاء بحوالي خمسة عشر ألفًا، وكانت لديهم مراكب وسفن كثيرة. بعد اتفاقية أجراها القائد عبد الله بن طاهر مع زعيمهم أبي حفص عمر بن عيسى البلوطي (الإقريطشي) انتقل هؤلاء الأندلسيون بمساعدة الحكم العباسي إلى جزيرة كريت (إقرِيطش) حيث نجحوا سنة 212ﻫ/827م في احتلال قلعة بيزنطية كبيرة، وبعد سنة نجحوا في طرد البيزنطيين من الجزيرة كلّها. يبدو أن ذلك قد تمّ بعد انضمام مهاجرين أندلسيين جدد.
فشل البيزنطيون في القضاء على المهاجرين المغامرين عن طريق البحر وفي محاولاتهم لوقف توسعهم. إذ أخذ هؤلاء المهاجرون يهاجمون شواطئ تراقيا وجزر سيكلادس وراحوا يهددون طرق الملاحة البحرية في بحر إيجة. في سنة 839م قضوا على أُسطول بيزنطي كبير بالقرب من جزيرة تاسوس. في سنة 843م قام البيزنطيون بإعداد أُسطول كبير لإرساله إلى كريت غير أن هذا الأُسطول لم يُبحر من قواعده. لقد تزعزعت سيطرة الدولة البيزنطية على البحر الأبيض المتوسط بشكل خطير في أعقاب الهزائم المتكررة التي منيت بها على يد المهاجرين العرب الأندلسيين في كريت والأغالبة في جزيرة صقلية لذا أرسل القيصر ثيوبوليس (829-842) وفودًا إلى دول غرب أوروبا للحصول على تأييدها العسكري، ولكن هذه الوفود عادت خالية الوفاض. كما أنه حاول إنشاء تعاون مع الحكم الأموي في الأندلس حيث أرسل إلى هناك سنة 225ﻫ/839م وفدًا رفيع المستوى مع رسالة إلى الحاكم عبد الرحمن الثاني. في هذه الرسالة حرّض القيصرُ الحاكمَ الأموي على العباسيين والأغالبة، وحاول إقناعه بالعمل ضدّ المهاجرين الأندلسيين في جزيرة كريت بدعوى أن هؤلاء وكلاء للعباسيين وخدّام لهم. في الرسالة الجوابية نفى الحاكم الأموي مسؤوليته عن أعمال المهاجرين الأندلسيين، وحاول أن يعطي مبررًا لتعاونهم مع العباسيين بأن ذلك ناتج عن ضرورة فرضها الأمر الواقع. صحيح أن عبد الرحمن الثاني أرسل وفدًا رفيع المستوى إلى القسطنطينية، لكن اتفاقًا للتعاون بين الدولتين لم يُوقّع. يبدو أنّ الأمويين، كذلك، لم يكونوا معنيين باستمرار هيمنة الدولة البيزنطية على البحر الأبيض المتوسط.
هجمات الأسطول البيزنطي على قواعد الأندلسيين في مصر:
توصلت الدولة البيزنطية إلى قناعة بأنه من أجل القضاء على المهاجرين الأندلسيين في جزيرة كريت يجب فصلهم عن قواعدهم الخلفية في مصر؛ لذا أصبحت مدن الساحل المصري هدفًا لهجمات الأُسطول البيزنطي. في 9 ذي الحجة سنة 238ﻫ/13 آب 853م قام الأُسطول البيزنطي بهجوم واسع على مدينة دمياط. في ذلك الوقت جرت في المدينة استعدادات لإرسال ذخيرة ومعدّات عسكرية كبيرة للمهاجرين الأندلسيين في كريت.
يرى جنكينز أن هذا الهجوم كان انتقامًا لفشل البيزنطيين في كريت وردًّا على أعمال "القراصنة" الذين حوَّلوا مدن الساحل المصري إلى قواعد لهم. يبدو أن هذا الهجوم كان أكثر من عملية انتقام وتأديب. يعتقد فازيلييف بأن من وراء الهجوم على دمياط وقفت خطّة بموجبها يقوم الأسطول البيزنطي بالهجوم على جزيرة كريت وبفصل هذه الجزيرة عن مصر التي كانت فيها صناعة سفن قراصنة البحر الأندلسيين. تأكيد لما يقوله فازيلييف نجده لدى ابن الدّاية الذي يروي عن نزول جنود البحر البيزنطيين على سواحل كريت وقيامهم بمحاصرة المهاجرين الأندلسيين الذي نجوا بأعجوبة عندما انسحب البيزنطيون من الجزيرة في أعقاب موت قائدهم. يعتقد أرشيبالد لويس بأنه ربما كان للهجوم البيزنطي على دمياط تأثير كبير على رجال كريت لأن هؤلاء توقفوا عن مهاجمة البيزنطيين حتى سنة 826م.
بخصوص الهجوم على دمياط ونتائجه يقول اليعقوبي: "أناخت الروم على دمياط في خمسة وثمانين مركبًا ، فقتلوا خلقًا من المسلمين، وأحرقوا ألفاً وأربعمائة منزل، وكان رئيس القوم يقال له قطوناريس، وسبوا من المسلمات ألفاً وثمانمائة وعشرين امرأة، ومن نساء القبط ألف امرأة، ومن اليهود مائة امرأة، وأُخِذَ السلاح الذي كان بدمياط والسَّقَط، وتهارب الناس، فغرق في البحر نحو ألفين، وأقاموا يومين وليلتين، ثم انصرفوا ".
وصف مفصّل أكثر نجده لدى الطبري الذي يقول تحت حوادث سنة 238ﻫ/ 853م إن الروم جاءت بثلاث مائة مركب تحت قيادة ثلاثة من رؤساء البحر وهم: ابن عرفا، ابن قطونا وأمردناقه، حيث أناخ ابن قطونا بدمياط مائة مركب من الشلندية يحمل كل مركب ما بين الخمسين إلى المائة. عندما بدأ الأدميرال ابن قطونا باحتلال المدينة أبحرت إلى عرض البحر مائتا مركب بيزنطي، ويبدو أنها توجّهت نحو كريت، أو بقيت في المنطقة للحراسة. فهرب السكان المذعورين، وغرق قوم كثير من نساء وصبيان في البحيرة الضحلة التي تفصل دمياط عن اليابسة. أحرق الغُزاة، الذي يُقدَّرَ عددهم بنحو خمسة آلاف، معظم بيوت المدينة، وكذلك خزانة القلوع وهي شُرُع السفن، والمسجد الرئيسي وعدداً من الكنائس، وأخذوا معهم السلاح الذي كان في النية إرساله إلى أبي حفص، صاحب إقريطش، والذي كان نحواً من ألف قناة وآلتها. كما استولوا على كمية كبيرة من الأمتعة والقَنْد والكتان مما كان عُبّىء ليحمل إلى العراق، وسبوا ستمائة امرأة مسلمة وقبطية. كانت الخسائر البشرية كبيرة جداً فقد بلغ عدد الذين غرقوا في البحيرة أضعاف عدد الذين أُسروا. كان التوقيت الذي اختاره الأدميرال ابن قطونا لتنفيذ الهجوم موفقاً جداً، إذ قبل أيام دعا عامل معونة مصر، عنبسة بن إسحاق الضبي، جميع الجند الذين بدمياط إلى الفسطاط للاحتفال بعيد الأضحى، وبذلك أخلى دمياط من الجند وتركها دون حماية. روى الطبري أن زعيماً محلياً معتقلاً اسمه ابن الأكشف هرب من السجن ونظّم عددًا من السكان لمقاومة المحتلين، وقد نجح في قتل جماعة من الروم، إلا أن هذه المقاومة لم تكن ذات بال.
كذلك هاجم الروم مدينة تنيس بمصر وأوقعوا خسائر في الأرواح والممتلكات. لاحقاً نجح الخليفة العباسي المتوكل على الله في صد هجمات الروم على مصر وعلى الثغور الشامية، بينما ثَبَّتَ المهاجرون الأندلسيون أقدامهم في جزيرة كريت فكان من الصعب على الدولة البيزنطية اقتلاعهم.
تبادل تجاري وثقافي:
كانت مراكب أهل إقريطش " تمير أهل مصر بخيرات جزيرتهم وأطعمتهم، وكانت هداياهم تصل إلى عمال(ولاة) مصر"، وكان يحمل من إقريطش العسل والنحل والجبن الكثير إلى مصر والشام، ويُسمى بلغة الفرنج "كنديا" نسبة إلى مدينة كنديا أو الخندق قاعدة إقريطش. رحب السكان المحليون بالعرب واختلطوا بهم من خلال التصاهر والتزاوج. لقد نشر العرب ثقافتهم وحضارتهم في الجزيرة وما حولها حين كانت هذه الحضارة في قمة ازدهارها.
ظل العرب الأندلسيون يحكمون جزيرة كريت حتى سنة 350ﻫ/961م، أي أن الحكم العربي لكريت دام مدة مائة وأربع وثلاثين سنة شمسية، ثم استولى البيزنطيون على الجزيرة مرة أخرى وساد الاضطهاد للمسلمين في الجزيرة. يبدو أن من بقي منهم هناك اعتنق النصرانية واختلط بالسكان اليونانيين.
فتح الأتراك العثمانيين لكريت:
في سنة 1204م وخلال الحملة الصليبية الرابعة اشترت جمهورية البندقية جزيرة كريت، وحكم البنادقة الجزيرة حكمًا استبداديًا حاولوا خلاله نشر المذهب الكاثوليكي بين سكانها الذين كانوا يعتنقون المذهب الأرثوذكسي، فهاجر الكثير من أهل الجزيرة إلى البلاد الإسلامية، واعتنق الكثير منهم الإسلام. في القرن السابع عشر للميلاد استنجد أهل الجزيرة بالأتراك العثمانيين لتخليصهم من حكم البنادقة، فأرسل العثمانيون حملة لفتح كريت وتمكنوا عام 1080ﻫ/1669م من احتلال الجزيرة، فعاد الحكم الإسلامي لجزيرة كريت مرة ثانية وعاد المذهب الأرثوذكسي. ساد التسامح الديني في الجزيرة وأمام تسامح المسلمين اعتنق نصف سكان الجزيرة الإسلام، ولم يحاول العثمانيون تغيير لغة الجزيرة أو التدخل في دين أهلها، ولكن اليونانيين ثاروا في شبه جزيرة المورة، وأعلنوا في 21 ربيع الآخر سنة 1283ﻫ/ 2 أيلول 1866م العصيان في كريت بتحريض من بعض الدول الكبرى خاصة روسيا. خلال هذا العصيان تعرض المسلمون لحملة إبادة كبيرة. في تلك السنة أصدر السلطان فرماناً يقضي بإعفاء السكان من دفع الضرائب ومن الخدمة العسكرية. لقد تفاقمت الأمور في كريت وازدادت سوءاً ما أدى إلى تدويل الجزيرة سنة 1896م وانسحاب الأتراك العثمانيين منها عام 1316ﻫ/1898م. جراء ذلك هاجر عشرات الآلاف من المسلمين إلى تركيا وسوريا ومصر ولبنان وليبيا. قسم من الكريتية أسكنهم السلطان عبد الحميد الثاني في قرية تقع على مسافة عشرين كيلاً إلى الجنوب من مدينة طرطوس في سوريا، وقد سميت القرية باسم الحميدية نسبة إلى السلطان عبد الحميد. من الجدير بالذكر أن من بين هؤلاء من رحل إلى فلسطين حيث يسكنون اليوم في الجليل في قرى الرينة وكابول والمكر وكان بعضهم يقطن في قرية ميعار حتى عام 1948. وكريدي من عائلات صفد التي هُجِّرَت إلى سوريا عام 1948. ومن العائلات المسيحية القديمة التي هاجرت من جزيرة كريت إلى فلسطين قبل حوالي 400 سنة عائلة ملك في مدينة يافا.
المسلمون اليوم في كريت:
في سنة 1332ﻫ/1913 ضُمت كريت إلى اليونان، فازداد عدد النازحين ولم يبق من المسلمين في الجزيرة سوى 34 ألفاً الذين يشكلون، حالياً، عصب الجالية التركية الصغيرة. خلف المسلمون وراءهم في كريت العديد من المساجد والمدارس الإسلامية، ومن أبرز هذه المساجد مسجد السلطان إبراهيم في مدينة كنديا(الخندق) وقد حُوِّلَ هذا المسجد إلى كنيسة تحمل اسم "سانت نيكولاس".
مصادر:
1.المقالة الواردة أعلاه هي جزء من رسالة دكتوراه للدكتور محمد عقل بعنوان، الدولة العباسية في عهد المتوكل على الله (232-247ﻫ/847-861)، جامعة بار- إيلان، 1988. وطبعت الرسالة في دار إي كتب بلندن في نوفمبر 2019
2. الدستور العثماني، ترجمة نوفل نعمة الله نوفل، المجلد الأول، المطبعة الأدبية، بيروت، 1301ﻫ/1883م.
3.جيمس رد حاوص، قاموس عثماني-إنكليزي "كتاب معانئ لهجه"، ط1، القسطنطينية، 1890.
4." العائلات الكريتية في قرية الحميدية في سوريا"، مقالة منشورة في موقع " جمعية أُولي النهى للشؤون الكريتية" في تاريخ 7/6/2012 على الإنترنت.
5. هاشم سويلاماز، "الكريتيون الأتراك في لبنان"، مجلة الأكسيون، العدد 222، في تاريخ 6/10/2008، وقد نشرت هذه المقالة في موقع "جمعية أولي النهى للشؤون الكريتية" على الإنترنت. وانظر كذلك مقالة " أسماء العائلات الكريتية في لبنان"، مقالة منشورة بتاريخ 6/6/2012 في موقع "جمعية أُولي النهى للشؤون الكريتية" على الإنترنت.
6.أحمد استراكياكيس ونور الدين كوياتاكيس، "أسماء العائلات الكريتية في ليبيا"، في 6/6/2012، موقع "جمعية أولي النهى للشؤون الكريتية"، على الإنترنت.
وسوم: العدد 856