الأسرة في كتاب الله
الأسرة في كتاب الله
عزة مختار
الإنسان كائن اجتماعي بطبعه وفطرته التي خلقه الله عليها .. فعلي مدي التاريخ الإنساني كله نجد أن هذا الكائن لا يمكن أن يعيش بمفرده , وإنما يلجا دائما إلي تكوين المجتمعات في صور شتي فكانت أولا القبائل والعشائر ثم القرى , ثم المدن ..
" يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثي وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا .إن أكرمكم عند الله اتقاكم " النساء
وفي كل هذه الحالات كانت الأسرة هي نواة أي مجتمع من هذه المجتمعات وبالطبع تطور شكل هذه الأسرة اختلفت صورتها من زمن إلي زمن ولكن ظلت كما هي علاقة بين رجل وامرأة ينتج عنها الأبناء ، ويكون فيها الرجل هو القائد علي أمر تلك المؤسسة ، وذلك بحكم طبيعته التي حباه الله بها من قوة وصلابة ومقدرة علي مواجهة الأمور الحياتية الصعبة .. يقول الأستاذ سيد قطب في ظلاله في تفسير هذه الآية بأنها " توحي بان قاعدة الحياة البشرية هي الأسرة . فقد شاء الله أن تبدأ هذه النبتة في الأرض بأسرة واحدة . فخلق ابتداء نفسا واحدة وخلق منها زوجها فكانت أسرة من زوجين " وبث منهما رجالا كثيرا ونساءا " ولو شاء الله لخلق الخلق ـ في أول النشأة ـ رجالا كثيرا ونساءا ، وزوجهم فكانوا أسرا شتي من أول الطريق لا رحم بينها من مبدأ الأمر ، ولا رابطة تربطها إلا صدورها عن إرادة الخالق الواحد وهي الوشيجة الأولي . ولكنه سبحانه شاء لأمر يعلمه ولحكمة يقصدها أن يضاعف الوشائج فيبدأ بها من وشيجة الربوبية ـ وهي أصل الوشائج ـ ثم يثني بوشيجة الرحم ، فتقوم الأسرة الأولي من ذكر وأنثي ـ هما من نفس واحدة وطبيعة واحدة وفطرة واحدة ـ ومن هذه الأسرة الأولي يبث رجالا كثيرا ونساءا ، كلهم يرجعون ابتداءا إلي وشيجة الربوبية , ثم يرجعون بعدها إلي وشيجة الأسرة التي يقوم عليها نظام المجتمع الإنساني , بعد قيامه علي أساس العقيدة .. ومن ثم هذه الرعاية للأسرة في النظام الإسلامي , وهذه العناية بتوثيق عراها وتثبيت بنيانها وحمايتها من جميع المؤثرات التي توهن هذا البناء ـ وفي أول هذه المؤثرات مجانبة الفطرة ، وتجاهل استعدادات الرجل واستعدادات المرأة وتناسق هذه الاستعدادات مع بعضها البعض وتكاملها لإقامة الأسرة من ذكر وأنثي ..
ثم يأتي في لمحة أخري من سورة النساء " يا أيها الذين امنوا لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرها , ولا تعضلوهن لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن إلا إن يأتين بفاحشة مبينة وعاشروهن بالمعروف فان كرهتموهن فعسي أن تكرهوا شيئا ويجعل الله فيه خيرا كثيرا " .......
وحفاظا علي هذه الأسرة وحتى لا تكون كالقشة في تيار شديد وضع القانون الإلهي تشريعا نعود إليه وقت الغضب ووقت الكراهية يقول الأستاذ قطب " والإسلام الذي ينظر إلي البيت بوضعه سكنا وأمنا وسلاما ، وينظر إلي العلاقة ببن الزوجين بوصفها مودة ورحمة وأنسا ويقيم هذه الآصرة علي الاختيار المطلق كي تقوم علي التجاوب والتعاطف والتحاب هو الإسلام ذلته الذي يقول للأزواج " فان كرهتموهن فعسي أن تكرهوا شيئا ويجعل الله فيه خيرا كثيرا " كي يستاني بعقدة الزوجية فلا تنفك لأول نزوة ، وكي يحفظ لهذه المؤسسة الإنسانية الكبرى جديتها فلا يجعلها عرضة لنزوة العاطفة المتقلبة , وحمقة الميل الطائر هنا وهناك" في ظلال القران ..
حتى مع الطلاق رحمة
والإسلام في هذا الشأن لا ينكر الانفصال ولا يحرمه إنما هو كأي مباح ولكنه كرهه ووضع شروطا وحلولا كثيرة يطرقها طرفي النزاع قبل أن نلجأ إلي الحل الأخير وكل ذلك حفاظا علي كيان الأسرة وبما يحويه من علاقات وذكريات وأولاد وتاريخ جمع بين اثنين وبيت ضمهما معا حتى كادا أن ينصهرا في بوتقة واحدة .. فيقول الله تعالي بعد أن يقرر إمكانية " استبدال زوج مكان زوج " كمحاولة أخيرة من التشريع لنزع فتيل الانفصال : " وان أردتم استبدال زوج مكان زوج ، واتيتم إحداهن قنطارا فلا تأخذوا منه شيئا . أتأخذونه بهتانا وإثما مبينا . وكيف تأخذونه وقد أفضي بعضكم إلي بعض , وأخذن منكم ميثاقا غليظا "
يقول الأستاذ قطب " ويدع الفعل " أفضي " بلا مفعول محدد . يدع اللفظ مطلقا , يشع معانيه , ويلقي كل ظلاله ويسكب كل إيحاءاته ، ولا يقف عند حدود الجسد وافضاءاته . بل يشمل العواطف والمشاعر والوجدانات والتصورات والأسرار والهموم والتجاوب في كل صورة من صور التجاوب . يدع اللفظ يرسم عشرات الصور لتلك المؤسسة التي ضمتهما فترة من الزمان .. وفي كل اختلاجة حب إفضاء وفي كل نظرة ود إفضاء , وفي كل لمسة جسم إفضاء , وفي اشتراك في الم أو أمل إفضاء , وفي كل تفكر في حاضر أو مستقبل إفضاء . وفي كل شوق إلي خلف إفضاء , وفي كل التقاء في وليد إفضاء .....
كل هذا الحشد من التصورات والظلال والانداء والمشاعر والعواطف يرسمه ذلك التعبير الموحي العجيب " وقد أفضي بعضكم إلي بعض " فيتضاءل بحواره ذلك المعني المادي الصغير ويخجل الرجل أن يطلب بعض ما دفع , وهو يستعرض في لحظة الفراق الأسيف ., ثم يضم إلي ذلك الحشد من الصور والذكريات والمشاعر عاملا آخر من لون آخر " وأخذن منكم ميثاقا غليظا " هو ميثاق النكاح , باسم الله , وعلي سنه الله ..
وهو ميثاق غليظ لا يستهين بحرمته قلب مؤمن وهو يخاطب الذين امنوا , ويدعوهم بهذه الصفة أن يحترموا هذا الميثاق الغليظ . " الظلال
وإذا تجولنا في آي الكتاب لاحظنا اهتماما كبيرا من قبل التشريع الإسلامي بهذه المؤسسة باعتبارها أساس بناء المجتمع المسلم فالدولة المسلمة . فيقول تعالي " ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة " " هن لباس لكم وانتم لباس لهن " " نساؤكم حرث لكم فاتوا حرثكم أني شئتم وقدموا لأنفسكم واتقوا الله واعلموا أنكم ملاقوه ، وبشر المؤمنين " ...
ونلاحظ كذلك أن جميع هذه الآيات من الآيات المدنية والتي نزلت في مرحلة بناء المجتمع والدولة ونجد ذلك منشرا في سور شتي من القران الكريم مقرونا بنداء من الله تعالي يا أيها الذين امنوا .. أو مذيلا بكلمة المؤمنين مما يدل علي الاهتمام الكبير بالأسرة عامة والمرأة خاصة وأحاطتهم بجانب كبير من الرعاية والحماية ....
والأسرة هي ذلك الركن الركين والمأوي والملاذ لذلك الأب المتعب والذي يشقي أغلب ساعات النهار فيعود إلي الزوجة المحبة الحانية والتي تشعر " كامرأة الحطاب " بجفاف حلقه حين يشتد عليه لهيب الشمس فتعد له البيت وتهيئه كأحسن ما يكون .... تنسيه آلامه وتحمل عن كاهله الهموم يعود بعد العناء إلي تلك الأفراخ الصغيرة والتي تنتظر عودته بقطعة الحلوى أو حتى بابتسامة مرهقة واذرع مفتوحة وأيد ممدودة لتضم في لهفة الأبناء الأحباء فلذات الأكباد ، فتتساقط الهموم كما تتساقط أوراق الشجر الجافة ..
الأسرة هي تلك الشجرة الوارفة الظلال والتي يتجمع تحت ظلالها كافة أفراد العائلة متحابين متكاملين كل منهم وكأنه الآخر.. فإذا كان هذا هو شان الأسرة فماذا يكون شان المجتمع, وماذا يكون حال الأمة..
ومن هنا يجب أن نسلم بدور الأسرة الخطير في بناء الدولة المسلمة ودور المرأة في بناء الأسرة..
ويجب أن تعلم الأخت المسلمة مدي المسئولية الملقاة علي عاتقها في الخروج بالأمة من المأزق الحالي..و لا نقلل هنا من دور الرجل الأب والزوج والمربي, بل يجب أن تكون النهضة بهما معا. يدا بيد وقلبا بقلب وروحا بروح، كل منهما في جبهته يذود عن الإسلام وعن الأمة عبر الحفاظ علي مؤسستهما الصغيرة..
ولذا وكما سبق سماه الله عز وجل " ميثاقا غليظا " إنه ليس مجرد عقد بين اثنين أو كلمة بين رجل وامرأة, وإنما هو ميثاق موقع بينهما وشاهدهما هو الله تبارك وتعالي..
فليتقي كل منا ربه فيما هو موكل إليه من الحفاظ علي هذا الكيان الأسري وإلا فلن تقوم لنا قائمة أبدا . ولتعلم كل منا أن النموذج الأسري الذي يجب أن نبتغيه ليس بدعا وإنما هو حقيقة رائعة تحققت في يوم من الأيام وكان نتاجها دولة عظمي ملكت من مشارق الأرض ومغاربها وملأت أركانها بالعدل والسلام .