المقامة العربية المأساوية
المقامة العربية المأساوية
أ. د يوسف ذياب عواد/نابلس
في ذات زمان ليس ببعيد، كان العرب والمسلمون يسخرون منا فلسطينيين، بحكم تعدد فصائلنا ومشاربنا السياسية. ويقولون: أنتم ستفشلون! وكنا نقول وقتها: إنّ المزاج العربي لا يستسيغ التعددية! وهذا في ركب التخلف بعينه ... ومع الأيام تعمّقتْ الخلافات بيننا، وكنا عند سوء ظنهم وفالهم المشؤوم، وقد استغرق ذلك عدة قرون من الزمن ...
دارت الأيام، وأجرت عدد من الدول العربية انتخابات تشريعية أو نيابية، وبعد أشهر قليلة، اندلعَ ما يُسمّى بالربيع العربي، وتبيّن للفائزين منهم أنّهم لا يمثلون إلّا نساءهم! فأولادهم منهمكون بالحراك الاجتماعي أو السياسي... وبعد شكوك كبيرة بما ستصل اليه الأمور من مكاسب سياسية وتنامي ظواهر سلبية في الدول التي ابتليت بما هو أسوأ من واقعها، تراجَعَ الحراكُ في تلك الدول، وسقطَتْ أهدافُها غير الواقعية، إلّا أنّ رواسب هذه الحِراكات لا يزالُ قائما؛ فآليات الإصلاح والتغيير بطيئة، وتعاني من التخطيط والتمويل معا مشاكل جمّة ... أمّا الدول التي غرقت بوبال أمرها وحِراكاتها تعاظمت شلالاتُ الدم فيها، وأصبح الإجْرامُ ملاذا لتصفية الحسابات فيما بينها وبين رموز السلطة القائمة ، وبين جيوشها والحركات المتآلفة؛ بل وبين تلك الحركات نفسها..!!
وطال أمد هذه المسلسلات الدموية، وتحوّلتْ إلى مذهبية وطائفية، وزاد رحى المعركة، وتزايد طحنها! فترك أهل البلاد بلادهم، ولجأ من لجأ الى جوار ممكن أو بعيد مُخْطِر، فغاروا في عمق البحار، ولاذوا بالفرار .. وجاعوا وقتلهم البرد كما قتل بعضهم التعصب! وحتى هذه اللحظة، لا نجدُ بينهم للتعاطف سبيلا، وللتسامح طريقاً، وكان الشرخ كبيراً ، لا يُرجى منه عودة المحبة إلى قلوب أهلها وشعبها ... وغَدَرَهُم الزمانُ مثلنا! وطوت السنون حالها، وتكالبت الظروف على نحو أسوأ فأسوأ .... فتفرّقَ الرَّبعُ، وتسرّبَ التلاميذ من مدارسهم، وباتُ الرجالُ في خيام يمدون أيديهم لأغطيةٍ تتدفَأُ بها الأسْرَةُ أو ينتظرون عُلب سردين أوشك تاريخ صلاحيتها على الانتهاء! وأمّا الإناثُ فوجدْنَ في تزويجهن إنقاذاً لمستقبلهن، وهروبا من عار محدقٍ ربما يطالعهن فتوسعتْ دائرة المصاهرة والحسب والنسب باتساع العالم من حولهم ..! واستبدلوا دخان الطائرات بهوائهم النقي أو بدلا من دخان الطوابين لتنفث عذابا لا خبز فيه.
كنتُ في مقتبل عمري أشاهدُ دموع النسوة تنهمرُ حينما تتزوج ابنة القرية غريبة ولو على مسافة بضع كيلومترات؛ بل ترافقها الأغاني الحزينة )(يا أهل الغريبة لا يجبر لكم خاطر ) وغير ذلك من أغانٍ شعبية!!
أمّا اليوم فالتباكي ينتابه التبلدُ، حتى لو كان الزواج من بلد لبلد ومن شعب لآخر.. في حالات محدودة تزوّجَ من شعبنا بضعُ عشرات من جنسيات أخرى، وبحذر شديد! أمّا دولُ الحراك أو الربيع العربي، فأمطروا حواريهم بجواحظ من الخليج، وغرباناً! أو لمن رغب بتحقيق وعد الله من النساء مثنى وثلاث ورباع .. وإنْ سمح الحال أحيانا كان الأولاد ولاة أمور أمهاتهم بالزواج ... وبعد طول انتظار توهموا ولا يزالون بأنّ العودة قريبة وممكنة، ولم يكتشفوا بعدُ أنّ حق العودة للفلسطينيين ربما يكون أسهلَ من عودتهم لسيوف هذا التنظيم، أو لأقبية سجون هذا النظام أو لمُسلحي هذه العشيرة، أو لتجمع البلطجية والشبيحة والزعران وللفلتان بكل أشكاله في ميادين التحرير والتكرير وتقصير الأعمار ودفن الأسرار .
المهم في واقعنا العربي أنّك تبدأ وتبدأ ولكن لا تملك كوابح التوقف فتنزلق وتخترق وتحترق بمصير لا يحتمل الفرق ... وهذا سيناريو الحداثة أو ما بعد الحداثة، يسير الناس فيه ولا يخيرون نحو مجهول ويترك للعواء السياسي المجال للتغريد والتمجيد والتهديد والوعيد لا لعدو مارق أو من تسبب بالمآزق؛ بل لجارٍ أو لابن بلدة أو دين أو شعب .. لذا تعيث داعش فواحش وفساداً!! ويمارس النظام الانتقام ويستخدم الليبي العقل اللبيب في حرق المطار، ويطير العراق نحو الفراق من عتبات الحياة الى مهالك الممات، واختلط الحابل بالنابل، وعاد الحجاج بالكرباج وقتل الناس كما الدجاج في المساجد والمعابد ... وفي مصر الكنانة استبدلوا الزواج العرفي بالطلاق الاسمي هروبا من إثم هزة للخصر بعد العصر على ضفاف الثقافة بشموع من سخافة ..وحلّ البلاء محل الصفاء ولولا حفنة من ضبط وربط لحل السخط والنط لما تبقى من حسناوات و بط ..فلا بقي نيل ولا ليل جميل .. وهكذا دواليك دول آل لوط على رأس القائمة تمور وتغوط تحت مستوى سطح البحر وتدفع ثمن الرخاء بالقهر والفاقة بالحاجة والمتعة بالسذاجة ..وهي الأخرى لن تنجو بحالها ومالها ومآلها فهي كما غيرها تبدأ وتبدأ ولا تصل لهدف او تشترك بحل ...وتتنفس تحت الماء على أنغام عبد الحليم حافظ ..إني أغرق إني أغرق... وفي تونس الخضراء انتصر البوعزيزي ورحل العابدين مصطحبا زوجته التي لم يسعفها الوقت في لملمة آلاف الفساتين ومئات الأزواج من الأحذية وملايين المجوهرات ولكن ما سبقها وصاحبها اكثر وأكثر ... وراج الناس بعدهم وماجوا ولا زالوا بين قرني يأجوج ومأجوج يتأرجون بحثا عن دين معدل ونظام حكم مبدل وسلطان مبجل على حافة الموت ليصنع لهم الحياة من جديد ... وفي المغرب مقام الوالي بالاعالي يقبلون يديه ويرتمون قرب نعليه ويتقربون منه أملا برضا الله عليهم ... ومنذ استلموا ملف لجنة القدس والقدس تستهود اولا بأول ...لكن الفارق بأن لا أحد يسمع او يستجيب إلّا رحمة من الله يقبل بها حسن خاتمة أو لاطمة ..فنكون والعياذ بالله مشاريع موت لعين لقاء جرائم ارتكبناها أو اشتركنا بها أو أهملناها .. فوصلت النار بيوتنا الخشبية من المحيط الى الخليج، وغاب الإيمان والحكمة اليمانية عن لغة الضاد، وكانت نتيجة وحدتنا العربية داء ودواء .. أماني ومثالب وعثرات ومصائب فالشيعي والحوثي عدو السني في جبال قاحلة السواد لا يجدون فيها لقمة عيش رغيد، والسني يذبح السني حسب الأصول بسيف صلصال من الوريد إلى البعيد!! والعلماني والحوراني في دائرة السوء وعتمة الضوء ... واليسار لا يغار على بيت أو دار.. يردح ويفضح لملمات وتمتمات لم تتغير مثل عادة بدوية لازمت العقل الصحراوي رغم ادّعاء الانفتاح والإفصاح بارتياح ...هذا واقعنا العربي الماغوط والممغوط في حضرموت..! وغوطة الشام وأحلام العصافير في الدمام جوار الخبر بلا صور أو عيون بلا حور تلهث البترول، وتستعبد البشر ويولى مليكا على كرسي لا يقوى على حمل ختم التوقيع وجرة القلم!! لها وقع وأثر ...تمشي الهوينا ففي العجلة يأتي الخطر ..!!
اسمحوا لي إن أطلت قولا ووصفا فالعرب اليوم أضعفُ من الضعيف، وأسخف من السخيف، ما لم يلملموا جراحاتهم ويقووا على تدخلات قوى الشر بالفكر والعمل.. وليكن ميلاد فجر جديد ليس ببعيد يناقش الهم ويلفظ السم ويوحد الدم الأشم ...ودين يوحد وفكر يؤكد وحريات تعدد .. ومصلحة تُجمّعُ، ورؤيا تسطع وهدف ينفع البلاد والعباد ..!! اسمحوا لي أبناء يعرب لأقول ما أصابنا دهاكم، وما بلانا بلاكم فلا استفدتم من تجربتنا وخبرتنا ...ولو كان قلبكم معنا وحللتم مشكلتنا لما أصابكم الدلف ..فهي لعنة فلسطين لمن لم يعطها حقها أو تآمر عليها ..أمهلتكم الأرضُ العربية الكنعانية ردحاً من الزمان لتحرروها من دنس المحتل، فأدرتم ظهركم لها، وناجتكم عتبة السماء فغشيّتم آذانكم ،،فكان ما كان لكم، ومخطئٌ كلُّ من يعتقد أنّ بلادكم تشعر بالحرية والإباء دون فلسطين ، فكونوا معها ليكون الله معكم...!!