الموت في مخيال الإنسان الغربي
الموت في مخيال الإنسان الغربي
أ.د مولود عويمر
اندفع الإنسان الغربي الحديث نحو المغامرة والاستكشاف وغزو العالم بالبحث عن المهمل و الكشف عن المجهول انطلاقا من الاكتشافات الجغرافية إلى الثورة الصناعية وحركة الاستعمار.
هل يعني هذا كله أن الغربي لم يكن يخاف من أي شيء؟ ماذا تعني بالنسبة له الموت خاصة بعد تجذر العلمانية والإلحاد في الفكر الغربي المعاصر؟
سأجيب عن هذه الأسئلة على ضوء بعض الدراسات الحديثة، مستعينا بالخصوص بملاحظاتي التي سجلتها عن المجتمع الغربي خلال إقامتي فيه سنوات عديدة.
النقاش حول فكرة الموت و طبيعته
ساد نقاش كبير في الفكر الغربي بجميع توجهاته الدينية والإيديولوجية والفلسفية حول فكرة الموت و طبيعته.
كان الفكر الفلسفي المسيحي يعتبر الموت هي انفصال الروح الإلهية الخالدة عن جسم المخلوق الفاني، مع التيقن أنه ليس فناءا نهائيا، لأن بعده حساب وجزاء وحياة جديدة في الجنة أو النار، بينما كان الفكر الوضعي يعتبر الموت هو "النهاية" وبالتالي لا خوف بعد ذلك بل يجب التعامل معه باللامبالاة.
وهكذا يتجاهل الإنسان الغربي الموت على طريقة الفيلسوف سبينوزا (1632-1677 ) الذي قال: " الإنسان لا يفكر في شيء أقل مما يفكر في الموت، لكن حكمته هي تأمل للحياة." ويقول أيضا بكل ثقة: " إن الإنسان الحر لا يفكر في الموت بالفعل ". لكن اسبينوزا الذي حاول الهروب من الموت قضى حياته في التفكير فيه.
ويرى الفلاسفة الوجوديون أن الإنسان يتحكم في حياته و حتى لحظات موته. و لذا يمكن له أن يتحكم في موته باختيار اللحظات الأخيرة و المكان و الوسيلة.
وعبّر أحدهم عن هذه المعاني قائلا: "إن القرن العشرين أكثر انشغالا من أن يشغل نفسه كثيرا بالمشكلات التي يطرحها الموت و ما يعقبه، فالرجل المحنك يكتب وصيته و يؤمن على حياته و يزيح موته جانبا بأقل صور التأديب... لقد أفنى الموت كمصير يلقي بظلاله وكموضوع كان الخلاف حوله شاملا." وهل يمكن للإنسان حقا أن يحدد نهايته ولو بطريقة الانتحار؟
الموت حق والأجل مجهـول
إن الإنسان يدرك فقط حتمية الموت لكنه يجهل تماما أجله الذي لا يتقدم ولا يتأخر كما قال الله تعالى في كتابه الكريم: " إذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون" ( الأعراف، 34، يونس 49 ، النحل 61).
وعبّر عن هذا المعنى الفيلسوف الفرنسي باسكال الذي تحدث عن الأجل المجهول قائلا: " إن كل ما أعرفه هو أنه لابد لي أن أموت عما قريب، ولكني لا أجهل شيئا قدر ما أجهل هذا الموت الذي ليس لي عليه يدان."
الأجل هو إذن في علم الله، أما الإنسان فإنه يعيش عمرا ثم يموت فردا كما خلق فردا مصداقا للآية القرآنية المعلنة بكل وضوح: "ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة" (الأنعام، 94).
وهو الوحيد في المخلوقات الذي يدرك أنه ميت مهما طال العمر أو قصر. " الجنس البشري هو الجنس الوحيد الذي يعرف انه سيموت، وهو يعرف ذلك من خلال التجربة." كما قال الكاتب الفرنسي الشهير فولتير (1647-1778).
الموت جزء من الحياة
والخوف في الغرب هو غالبا من طريقة الموت وليس في الموت بينما يفكر المسلمون أكثر بمصيرهم بعد الموت أقل من الموت نفسه. يقول في هذا الشأن الفيلسوف فويرباخ: " ليس الموت في ذاته، مخيفا، كلا !فالموت الطبيعي والصحي الذي يقع في الشيخوخة والذي يحدث حينما ينال الإنسان ما يكفي في الحياة (...) هو رغبة الإنسان ووصيته الأخيرة، على الأقل بقدر ما يظل في رغباته وأفكاره صادقا مع الطبيعة. أما الموت المرعب هو فحسب الموت العنيف القاسي وغير الطبيعي، ومثل هذا الموت هو وحده الذي يبدو للبشر عقابا إلهيا."
يعيش الإنسان الغربي وحيدا و يموت وحيدا. وقد صار مشهد الإنسان المحتضر وهو على السرير والأسرة الأنيسة محيطة به مشهدا نادرا، فكثير من العجزة يموتون وحيدين بعيدا عن أهليهم في المستشفيات أو ديار المسنين.
وتأمل ظاهرة أخرى لا تقل بؤسا. فبعد أن كانت المستشفيات مكان لإنقاذ المريض من الموت تحوّلت إلى فضاء لانتظار الوفاة وقضاء الأوقات الأخيرة من العمر.
وكذلك لم تعد المقبرة مصدرا للخوف والنفور بل أصبحت جزءا من الفضاء الحضري للمدينة. و تقوم البلدية بتنظيفها وتجميل محيطها. وبعد أن كانت المقابر تبنى بعيدا عن المدينة والسكان خوفا من الأشباح والأرواح التي روّجت لها الروايات والقصص الخيالية والأساطير المستقدمة من العصور القديمة، أصبحت المقابر تبنى في المدن، ويشعر المار الغريب الذي لا يعرف المكان أنه في وسط حديقة جميلة تزينها الأشجار الباسقة والورود العاطرة والقبور في أشكال فنية وزخرفيه.
ويزيد تلك القبور بهاء تمثال الجندي المجهول الذي يرتفع قريبا من الباب، ويقف الناس عنده للتأمل فيه، واستذكار كل إنسان مات بطلا من أجل الوطن والحرية.
وكان من أغرب ما عرفته في موضوع القبور في الغرب، حيث تصنف بعضها على أساس أيديولوجي وليس على حسب الانتماء العرقي أو المكانة الاجتماعية. فالصراعات الفكرية والسياسية الدائمة وصلت إذن حتى إلى هذا المكان المهجور. فالمثقفون اليساريون يدفنون في مقبرة بيير لاشيز ، بينما تدفن نخبة اليمين في مقبرة ليزانفاليد، خاصة القادة العسكريون منهم. وخصصت مقبرة لوبونتيون لدفن عظماء فرنسا بعد نقل رفاتهم إليها، فلم يدفن فيها من الأجانب سوى الكيميائية والفيزيائية البولونية ماري كوري إلى جانب زوجها العالم الفرنسي بيير كوري.
الموت اللغز الأكبر
وعملت البحوث الطبية الحديثة على تمديد عمر الإنسان بالتحنيط، وهذا لتقديس الموتى والحفاظ على فكرة الخلود الراسخة في الفكر الإنساني مؤمنا كان أو كافرا.
وهذا الفيلسوف برجسون يقول في كتابه " منبعا الأخلاق و الدين" الذي صدر في عام 1932 حول موضوع الخلود: " إذا كانت الحياة الذهنية ... تغمر حياة المخ، و إذا كان المخ لا يعدو القيام بترجمة جزء يسير مما يقع في الوعي إلى حركات، فإن البقاء إذن يصبح محتملا للغاية حتى أن عبء الإثبات يقع على كاهل من ينفيه وليس على كاهل من يؤكده. "
ومازلت أتذكر صورة الرئيس الفرنسي فرانسوا ميتيران و هو يسخر من الموت والآخرة في حوارات سجلها مع قناة التلفزيون الثانية ومجلة مريان، نشاهده على نفس القناة بعد سنوات قليلة خاصة بعد أن انتصر عليه مرض السرطان، ويحضر نفسه لمغادرة قصر الرئاسة الإيليزي بعد أيام قليلة، يزور فيلسوفا فرنسيا معروف بتدينه للحديث معه ساعات عديدة حول الموت والبعث !
وأتذكر كذلك هنا مقالة قرأتها في مجلة علمية تحدث فيها كاتبها عن تحنيط جسم الزعيم الشيوعي لينين ليبقى خالدا. وأشار إلى أن كثيرا من الشيوعيين الملحدين المولعين به يؤمنون في قرارة أنفسهم بأنه حي وسيعود بعد مائة سنة ليجدد أمر أيديولوجيتهم ويحقق النصر والرفاهية للبروليتاريا العالمية.
واقع الدراسات حول الموت
ظهرت كتب كثيرة في أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية سلطت الأضواء على موضوع الموت من مقاربات مختلفة، وأفردت مجلات عديدة مساحات واسعة لتناوله، وأنجزت حوله رسائل جامعية. نكتفي هنا بذكر نماذج منها.
لقد ألف المؤرخ فيليب آرييس ثلاثة كتب عرفت رواجا كبيرا في العالم الغربي، وهي: "مدخل إلى تاريخ الموت في الغرب"، "الإنسان أمام الموت" و " صور الإنسان أمام الموت".
وأعترف هنا للقارئ أن نفسي اقشعرت كثيرا، وأنا أتصفح هذا الكتاب الأخير الذي ضم مشاهد من موت الإنسان بمختلف الوسائل وفي أشكال متعددة.
وكتب أيضا الفيلسوف الأمريكي جاك شورون عدة مؤلفات تناول من خلالها تطور فكرة الموت في الغرب، ودرس ظاهرة الانتحار وتفاعل الإنسان مع نهاية حياته، وهذه الكتب هي: "الانتحار"، "الموت والإنسان الحديث"، "الموت في الفكر الغربي".
وهذا الكتاب الأخير ترجم في عام 1984 إلى اللغة العربية، و اقتبست منه مجموعة أقوال الفلاسفة والعلماء الواردة في بداية هذا المقال.
ولم تقتصر الكتابة على العلماء والفلاسفة المؤمنين كفيليب آرييس أو المؤرخ جون دوليمون المشرف على كتاب ضخم عنوانه: "المؤرخ والإيمان"، ومؤلف الكتاب الشهير " الخوف في الغرب"، وإنما كتب عن الموت أيضا عالم الاجتماع اليساري وصاحب مشروع الفكر المركب إدجار موران كتابا سماه "الإنسان و الموت أمام التاريخ".
وتساءل المؤرخ جون بيير فيرنون صاحب كتاب "أصول الفكر الإغريقي" عن معنى الحياة بعد تحقيق الإنسان لكل طموحاته وأنجز كل مشاريعه؟ وقارن كريستيان جومبير بين الموت والبعث في الإسلام والديانات السماوية الأخرى.
وفي العالم الإسلامي
كتب الباحثون والعلماء العرب والمسلمون عن الموت من مقاربة فكرية وأدبية وتحليل نفسية وليس عقائدية، وأذكر هنا بالخصوص "الموت والعبقرية" للدكتور عبد الرحمان بدوي، "لغز الموت" للدكتور مصطفى محمود، و " شيء عن الموت" للدكتور عماد الدين خليل.
لقد رصد الدكتور بدوي أهم الآراء والأقوال في الفلسفة الغربية عن الموت وعلاقة العباقرة به، وأما الدكتور محمود فشرح عجائب الموت الذي كشف عن عجز العلم الحديث عن حل أسراره، بينما يروي الكتاب الثالث قصة خيالية معبرة عن تجربة قام بها عالم نفساني بمساعدة قائد باخرة. فقد فوجئ الركاب وهم في غمرة الفرح والرقص واللهو، بإعلان عن غرق السفينة بعد مدة قصيرة بسبب عطل ميكانيكي خطير.
وبمجرد انتشار هذا الخبر، ظهرت تصرفات غريبة للمسافرين الخائفين من الموت تابعها العالم النفساني بدقة، ولم يخبرهم بالحقيقة إلا بعد أن سجل كل ملاحظاته التي كشفت له عن أغوار النفس البشرية الضعيفة. ولله في خلقه شؤون !