ما أسباب تفشي الاكتئاب بين الناس؟
ما أسباب تفشي الاكتئاب بين الناس؟
عابدة فضيل المؤيد العظم
تفشى في عصرنا "الاكتئاب" وزادت نسبة المعانين منه.
وتساءلت عن السبب:
هل زادت الهموم على البشر؟ هل تفاقمت المشكلات؟ أم انعدم الصبر؟
وطلباً للمساعدة قرأت في السيرة وتفكرت في حال الأقدمين من الصحابة والتابعين وغيرهم من الناس، فوجدت الموت فرقهم والبلاء نال منهم والفقر لاحقهم، ومروا بأنواع المصائب كلها التي نمر بها... ثم ضربوا أمثلة فريدة في التكيف وتأقلموا وعاشوا الحياة، وما عانوا كما نعاني.
وزادت حيرتي أكثر! وتفكرت في سبب "ازدياد الاكتئاب" بين الناس.
وأخيراً خطر لي سبب راقني اتهامه، وأرضى ضميري اختياره، ورأيته هو المجرم الرئيسي والأساسي فيما نعانيه ونكابده، إنه "انعدام التكافل الاجتماعي".
لقد كان الفرد (في قديم الزمان) يقع في مأزق فتقف القبيلة كلها معه تذب عنه وتنصره ظالماً ومظلوماً. ومرت الأيام وصار الناس يعيشون في بيوت عربية مشتركة وفي أحياء صغيرة مُسّورة، وظل التكافل موجوداً فيما بينهم، فيقف أهل الحي كلهم مع الغارم والمكلوم يجمعون له المال والزاد والراحلة، ويرعون أهله وأولاده في حضوره وغيبته، ويشدون أزره ويزيدون ثقته بنفسه ويفدونه بأرواحهم وأبدانهم.
كان الناس أقرب إلى بعضهم، وكان الحب أكبر فيما بينهم، والتسامح والتجاوز من أخلاقهم. وكان أكثرهم يفرح لفرح أخيه ويحزن لحزنه، ويتمنى الخير للجميع، ولا يجد غضاضة في تفوق غيره عليه، بل كان يعين الآخرين على الوصول إلى المعالي ويبارك إنجازاتهم.
واليوم انزوى الناس بعضهم عن بعض كل في شقته مع عائلته الصغيرة (زوجته وأولاده) مشغولاً عن والديه، يزور إخوته لماماً، ولا يعرف حق جاره، وضاع حق المسلم على المسلم فلا يُشمت المرء أخاه ولا يمشي في جنازته ولا يعوده، واندثرت الأعراف الحلوة وسرقت الدنيا الناس وأنستهم إخوانهم، ودمر "طول ساعات الدوام" و"إرهاق العمل" حياة الناس الاجتماعية. وخرب "الأسلوب الاستهلاكي" الفطرة السليمة. وبدَّل "تراجع الحالة الاقتصادية" القيم الأصيلة العالية، وقتل "الإنسانية" و"الرحمة" في النفوس.
وهذا حال المجتمع في زماننا:
1- كل فرد يقول اليوم: نفسي، نفسي. ولا مكان في عطائه للآخرين، الأنانية ضربت أطنابها وسيطرت على المجتمعات، وضاق الوقت وقل المال، وكلما حاز المرء خيراً بدأ بنفسه وأعطاها نصيبها غير منقوص، وثنى بزوجته وأولاده، ونسي إخوانه وجيرانه وأصدقائه، وقد ينسى أمه وأباه.
2- سيطر الحقد والحسد على القلوب، كل يريد المال والنجاح والتفوق والبروز والشهرة، وحبس بعضهم على نفسه عوارفها فلا يقدم للآخرين شيئاً لكيلا يتفوقوا عليه، ولقد رأيت بعيني طالبة متفوقة تتهرب من زميلاتها لكيلا تشرح لهن ما غمض عليهن من المنهج الدراسي، وإذا أحرجنها بالسؤال حلت لهن المسألة بطريقة خاطئة أو ادعت جهلها بها لتنفرد وحدها بالعلامات العالية. بل رأيت السيدة المحترمة تعطي جارتها وصفة خاطئة للطبخة لكيلا تتعلم ما برعت هي فيه من أطايب الطعام فتنافسها وتصير نداً لها!
3- وتبدلت أولويات الناس، فباتوا يفضلون (المال والعقار واللباس والزينة) على (الإخوة والخُلق والمعاشرة بالمعروف). فأنى لمثل هؤلاء براحة البال وقد استبدلوا المادة بالمودة؟
ولن يطمئن من تنافس في الأعراض الزائلة المتغيرة، ولن يفوز من ركض وراء كل جديد لأن الدنيا تتطور بسرعة مذهلة، وكل يوم تظهر "أشياء مبتكرة وغير مسبوقة" ولا يمكن لأي أحد لحاقها والسير في ركابها؛ إذ كل يوم يكتشفون معلومة علمية ويخترعون أداة أو يطورون آلة... وكلما حَدَثّ المرء كمبيوتره زادوا "الذاكرة والسرعة وتغيرت البرامج" وكلما حدّث جواله نزلت "موديلات بمزايا أفضل"... وهكذا ومهما حاول المرء تتبع كل جديد (في التكنولوجيا والتقدم الحضاري) وبذل ماله وجهده فإنه خاسر لا محالة، وهذا يزيد مشاعر الاكتئاب والمعاناة النفسية.
أيها المسلمون
مجتمعاتنا في خطر بسبب الأنانية والانكفاء على الذات وإهمال الآخرين، والاهتمام بالمادة. نحن بحاجة لبعضنا بعضاً، الدنيا تقوم على التكافل والمساندة، ولا يمكننا الاستغناء عن الناس أبداً:
فإذا كنت حزيناً فمن يسلوك؟ الناس
وإذا كنت مريضاً فمن الذي يعودك ويخفف عنك؟ الناس
وإذا كنت تحب الشهرة فمن سيصفق لك ويجعلك مشهوراً؟ الناس
وإذا كنت تحب المال فمن الذي سيربي تجارتك ويشتري منك لتصبح غنياً؟ الناس
للناس دور جميل في حياتنا، وللمقربين منهم دور هام في دعمنا نفسياً ومعنوياً، مما يزودنا بالقوة ويعطينا الاطمئنان والسعادة. ولقد كانت السيدة خديجة رضي الله عنها تسري عن الرسول عليه الصلاة والسلام، وتقف إلى جواره وتذب عنه، وكان عمه يفعل ذلك، فلما ذهبت هي وعمه في عام واحد تألم وسماه "عام الحزن"، فانظروا كم هي مهمة المؤازرة، وكم ترفع المعنويات، وكم تعين على الصبر. وموسى عليه السلام لما شرفه الله وبعثه نبياً طلب النبوة لأخيه هارون ليشد أزره ويكون شريكاً له في أمره فيهون الأمر عليه ويسهل.
نحن بحاجة إلى الناس والناس بحاجة إلينا، ولا يمكننا الاستغناء عن بعضنا بعضاً، ومن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته، ومن فرج عن أخيه فرج الله عنه، ومن كان معه فضل دابة أو فضل زاد فليعد به على من لا راحلة له ولا طعام... هذه عاداتنا وهذه طريقتنا ولو عدنا إليها لخفت معاناتنا ولتلاشت أكثر أحزاننا، والله في عون العبد ما دام العبد في عون أخيه. فامسحوا دمعة اليتيم، دافعوا عن الضعيف، عودوا المريض، عزوا المصاب، تفقدوا إخوانكم... يرتد كله عليكم وتبتهج نفوسكم بعمل الخير، ويقابلكم الناس بمثله في ملماتكم. مما يزيدكم قوة ويعطيكم الصبر والسلوان عن همومكم.