نظرية حزمة المصالح
د. ضرغام الدباغ
يستحق عالم السياسة الدولية المعاصر ليس المتابعة اليومية سواء من المثقفين، أو الأخصائيين فحسب، بل والتأمل عميقاً فيما هو أعمق وأبعد من المظاهر السطحية والعلاقات التي تبرزها وسائل الإعلام التي هي خاضعة بدرجة كبيرة لسيطرة هذه القوى العظمى ولا تخرج من تأثيراتها، والغوص في أبعاد المستجدات التي تطرحها الحياة، والتفاعلات اليومية بين القوى الدولية العظمى، والتأثيرات المتبادلة لعناصر كثيرة سياسية ديموغرافية، اقتصادية وثقافية.
والقوى الدولية الفاعلة اليوم على مسرح العلاقات الدولية هي:
· الولايات المتحدة: ولا زالت تتمتع بتفوق في القوة السياسية والاقتصادية والعسكرية، وإن كان هذا التفوق قلقاً وغير مستقراً(بالنظر لنشاط وتطور القوى الأخرى ولمصاعب سياسية واقتصادية)، إلا أنها بتحالفها مع أوربا بهذه الدرجة أو تلك من تلبية شروط المصالح المشتركة، تصبح قوة عالمية حقيقية، تمتلك قدرة تدخل مؤثرة في أي بقعة في العالم خلال فترة وجيزة.
· روسيا: تحاول بدأب استعادة دور القوة الدولية العظمى، وهي تدرك أن من مستلزمات هذا الدور انتشار سياسي عالمي، وطرح صورة ذات ملامح متكاملة للدولة العظمى، ولذلك هي تتفاعل وتؤثر وتتأثر مع مجموعة من الدول ذات التأثيرات المحدودة أو الواسعة النطاق في مناطقها: كوريا الشمالية، كوبا، فنزويلا، ومؤخراً تتضح صورة إيران ومجموعتها(العراق، لبنان، سوريا) في صورة العلاقات, وتتمتع روسيا بتأييد مرن من الصين لكنه لا يرتقي لدرجة التحالف.
· الصين: وهي دولة اشتراكية ولكنها تعمل بمبادئ السياسة الرأسمالية، وهدفها غير المعلن حالياً هو الوصول بصمت ودون ضجيج ودون أن تمثل استفزازاً لا ضروري له لأي طرف، ولا ترتبط بتحالف وثيق مع أي قوة أو كتلة، شعارها لتكن الصين أولاً دولة اقتصادية عظمى أولاً، ومن تلك أيضاً مزايا الدول العظمى العسكرية، وبعد ذلك يأتي الحديث عن الدور العالمي المؤثر والفعال.
· أوربا: ونقطة ضعفها تكمن في أنانية أطرافها، والسعي لموقع الصدارة، فلا يمكن الحديث عن قوة أوربا العسكرية بعيداً عن حلف الأطلس (الناتو) الواقع تحت نفوذ الولايات المتحدة بدرجة رئيسية. لذلك لا يمكن أن تظهر فاعليتها لا سيما في الصفحات الاستراتيجية إلا بالعمل تحت مظلة القدرات العسكرية للولايات المتحدة.
وهناك عدد من القوى المهمة، الفاعلة في مناطقها، لكنها لا ترتقي لدرجة أن تلعب دوراً عالمياً مؤثراً، وفي عداد ذلك: الهند، تركيا، جنوب أفريقيا، استراليا، البرازيل.
في أروقة السياسة الدولية اليوم في عصر العولمة(الإمبريالية الجديدة) تدور المفاوضات في كل شيئ، بما في ذلك مصائر دول وشعوب. صحيح أن الحقب الاستعمارية والإمبريالية الماضية كانت بشعة، إلا أنها لا تقارن ببشاعة ما يدور اليوم في كواليس السياسة الدولية بين القوى العظمى في ظل نظام العولمة، التي تجعل من أعتي الاستعماريين وزعماء الأنظمة التوتالية، في العصور الماضية تحمر وجوهم خجلاً وحياء.
فقد حدث في مؤتمر يالطا فبراير/ 1945، وكان فيها الود متبادلاً بين الزعيم السوفيتي ستالين، والرئيس الأمريكي روزفلت الذي أيقن بواقعية أن السوفيت سيكون لهم شأن كبير في السياسة الدولية شاء ذلك أم أبى، ولكن ستالين كان خصماً لدوداً للزعيم الاستعماري تشرشل، ولكن هذه الخصومة والكراهية المتبادلة لم تمنع قيام صفقة لا أدري كيف يبررها أيديولوجيوا الحقبة السوفيتية، ففي خضم المناقشات عن مستقبل أوربا بعد النازي(وكانت مقدمات هذه المرحلة تلوح في الأفق القريب، وما أشبه الأمس باليوم) كانت هناك ثورة شيوعية ظافرة في اليونان، مقابل سكون وهدوء نسبي في بلغاريا، فما كان من تشرشل إلا أن كتب على قصاصة ورق صغيرة، أربعة كلمات فحسب, مررها لستالين بهدوء وصمت وكانت الورقة تحتوي على الجملة التالية ( بلغاريا لكم، واليونان لنا) وبينما كان ستالين يدخن غليونه بهدوء قرأ القصاصة، وهز رأسه لتشرشل موافقاً، وحسم أمر اليونان، ومصير الثورة الشيوعية العارمة فيها حتى دون مناقشة، لسبب بسيط، أن ستالين فضل أن يكون مخلصاً للتاريخ والجغرافية وللثقافة المشتركة مع بلغاريا، على أن يكون مخلصاً لمبادئ أيديولوجية خاضعة للتغير والتبدل. هذا ما فعله السوفيت المتشددين عقائدياً أسلاف الروس الحاليين، فما بالك اليوم ..؟
ومن معطيات الوصفة الجديدة هي أن الأمريكان بدؤا يقرون بالوزن الجديد للقوى الدولية ومنها روسيا اليوم كدولة عظمى، وان ذكريات الحقبة السوفيتية أصبحت من الماضي الذي لا يريد أحد أن يتذكره، فروسيا اليوم دولة رأسمالية إمبريالية ولكن من طراز ما زال كمشروع يشكل هويته وملامحه الخاصة ومشروعه السياسي والاقتصادي والثقافي، ولكن هذا الطراز لم يتمكن حتى اليوم أن يكون بعيداً عن بدائية ونكهة الطغيان الشرقية والنظام التوتالي. وإذ يتهكم قادة روسيا اليوم على شعارات السوفيت، وعلى سذاجة مواقفهم العقائدية /السياسية ولنا في ذلك حديث. فهم اليوم يعملون بمبدأ مصالح روسيا قبل اعتبارات الأخلاق وحقوق الإنسان والطغيان والديكتاتورية وسواها من المصطلحات السياسية التي قلما يأتي ذكرها في محادثات القوى العظمى.
لقد شاهدت بنفسي لقطة صورة وصوت، للرئيس الروسي بوتين، يقول فيها لأحد رؤساء الدول في مؤتمر دولي من منتقدي سياسته الدموية في الشيشان: " أنتظر الاصوليون ليقطعوا لك رأس عضوك حتى تتعلم خطر الأصوليين الإسلاميين ".
اليوم تسود على مسرح السياسة الدولية المعاصرة سياسة حزمة(صفقة) مصالح " تعني في المقام الأول أن من الممكن أن نواصل العمل في موقف مشترك، ونتعاون في ظل ظروف لا يشترط أن نكون متفقين تماماً، فلسعة حجم هذه الساحة أو غيرها، وتداخل أطراف عديدة وعناصر مختلفة، حيث لا يمكن النظر إلى النتيجة النهائية بصورة الحسم التام، فنحن نكسب هنا جزئياً، لنكسب في مكان آخر بصورة حاسمة، فليس من الضروري أن تكون رابحاً تماماً، أو خاسراً تماماً، فنصف انتصار هو انتصار في بعض الحالات. والحلول الحاسمة قد تكون باهضة التكاليف، ينوء اللاعبون تحت ثقل تحملها.
وتتلخص نظرية حزمة المصالح بإيجاد نقطة أو نقاط مشتركة تضمن لقاء المصالح، أو في بعض فقراتها. وحتى في ذروة التشاؤم باستحالة الحل وازدحام الساحة باللاعبين الرئيسيين والثانويين وحتى الكومبارس ممن لهم أدوار متواضعة، يمكن التفاوض بهدوء وباستخدام عامل الوقت لتطوير ساحة وميدان الفعاليات. ففي القوى العظمى يتطلعون للنتائج النهائية، وقلما يهمهم حجم القتلى والخسائر لدى الأطراف المحلية، القوى العظمى ما زالت تواصل لعب دور الهيمنة والتوسع، واستخدام القوة المسلحة، ولكن بأساليب ربما متفاوتة.
ومن نافلة الكلام القول أن لا مكان هنا للأخلاق والقانون الدولي أو للمبادئ والايديولوجيات مهما كانت براقة وجذابة، ويستوي في ذلك حقوق الشعوب والمبادئ الإنسانية التي كان الاتحاد السوفيتي يرفعها كشعارات، أو الديمقراطية وحقوق الإنسان التي ما برح الغرب والولايات المتحدة يعتبرها مقياساً للدعم أو للإدانة، ورغم ذلك فقد مارس الغرب هذه السياسة بازدواج المعايير والكيل بمكيالين طيلة عقود وكان لها ضحاياها من الدول والشعوب.
ومن تطبيقات وصفة حزمة المصالح في سياسات الشرق الأوسط الحالية، توافر مجموعة لاعبين، وقد يكون هناك تفاوت في المصالح، إلا أن الروس نجحوا بإقناع الأمريكان أن المكونات التي تبدو حيناً متناقضة شكلاً، إنما تحمل في جوهرها نقطة يمكن أن تحمل في ثناياها فهماً جديداً لها وفي إمكانية تعايش المصالح(coexistence) في ظلالها، ومن أبدع من الروس في التنظير لسياسة التعايش ؟
إسرائيل، الأسد، إيران، حزب الله، الوضع في العراق، أفغانستان، الباكستان، مصر، هذه مكونات قد تبدو في نيجاتيف الصورة مكونات متنافرة حيناً وغير ذلك حيناً، متصالحة حيناً آخر في ميزان العلاقات الأمريكية / الروسية، إلا أن نظرة عميقة وتدقيقاً في بوزتيف الصورة وخلفياتها وعواقبها المستقبلية وتأمل ملامحها وتفاصيلها المعقدة غالباً، وما هو عليه الحال الآن، واحتمالات تطوره في المستقبل القريب أو البعيد، فهناك معطيات تظهر ملامحها في عالم الشرق الأوسط تحمل القوى الدولية القديمة الجديدة على التمعن في زوايا قد لا تبدو واضحة في الصورة من الوهلة الأولى. هذه القوى العظمى لا تنظر إلى صورة إمرأة ثكلى، ولا إلى بناية مهمة، بل إلى أية محاور وقوى ستنشأ إذا ما تمت ملامح اللقطة (س)، أو اللقطة (ص) والكل يعمل في غمار أنشطة تدور معظم أنشطتها في الخفاء وراء الكواليس، في حسابات المستقبل وليس في حسابات اليوم.
الغرب، الولايات المتحدة تحديداً، تعمل بنهج براغماتي دون شك، وهو دون أدنى ريب يقبل (في ظل العلاقات الدولية المعاصرة) بالحلول البديلة لتجنب وقائع صعبة، وباهضة الثمن مالياً وسياسياً، وهي تدرك تمام الإدراك أن المعطيات على مسرح السياسة الدولية تتغير كثيراً وباستمرار، فهم يراقبون القوى بشتى قدراتها، أو حتى تلك الواعدة منها بدقة كبيرة، ويضعون لكل شيئ حساباته.
ولا يهم الغرب في الشرق الأوسط شيئ قدر اهتمامه بأمن ومصير ومستقبل دولة إسرائيل، وهذا الاهتمام لم يشاد على أسس عاطفية أو أخلاقية أو حتى مبدأيه أو قانونية رغم أدعاهم ذلك، بل هو قائم لأن دولة إسرائيل هي دولة شبه رأسمالية شبه إمبريالية، بنظام ديمقراطي تعددي، السلطة يجري تتداولها، تمثل نقطة ارتكاز مثالية، حليف مضمون للولايات المتحدة والغرب بصفة عامة في الشرق الأوسط سياسياً واقتصادياً وعسكرياً، وسوف يتخلى عنها إذا أكتشف يوماً أو في مرحلة ما عكس ذلك. ويمكن القول بدرجة كبيرة من اليقين، أن سائر السياسات الأمريكية الشرق أوسطية إنما تنبع من هذا الجذر، وتفرعاته.
وبادئ ذي بدء، في حوار القوى العظمى، لا أحد يسأل عن حقوق الإنسان والديمقراطية، فهذه مصطلحات مطاطة تحتمل شتى التأويلات وجدلاً لا ينتهي، فمثلاً توصل الغرب والروس إلى قناعة مشتركة، أن بقاء النظام في سورية هو في صالح الطرفين، فهو الأضمن من بين جيرانها العرب لمصير إسرائيل، هذا ما أظهره تاريخ أربعون عاماً من الجيرة المسالمة، ولا علينا من الكلام والتصريحات اللفظية التي لا تعني شيئاً مادياً البتة.
الروس والغربيون يتفقون بهموم وهواجس الإسلام السياسي، ولربما هاجس الروس أكبر، فعندما قام الأتراك قبل عقد من السنوات بتأسيس جامعة الشعوب التركية، أثارت بذلك قلقاً غربياً قبل الروس، وتدريجياً بدأت تتضح ملامح موقف في تلك المنطقة(أواسط آسيا) تحمل الروس قبل الغربيين على القلق، فالحزام المؤلف من الدول: أذربيجان، أوزبكستان، كازاخستان، تركمانستان، طاجكستان، قرغيزستان، (بالإضافة إلى تركستان الشرقية الواقعة تحت الاحتلال الصيني)هي دول تدين بالإسلام، وتضم حركات دينية بلغ بعضها اليوم درجة مهمة من التطور، ناهيك عن نفوذ تركي في كثير من الجمهوريات والكيانات المنضوية ضمنها، وهو ما يفسر المواقف الروسية الحديثة حيال العرب والمسلمين.
أما الغرب، فهو يعتقد لأسباب كثير، أنه يحمي إسرائيل، ولأسباب سياسية أيضاً مر ذكرها، وتتفرع سائر السياسات الغربية من هذا الاتجاه الرئيسي في السياسة الخارجية الأمريكية، رغم أن وزارة الخارجية الأمريكية تقدم النصح دائماً إلى الإدارات الأمريكية بأتباع سياسة أفضل حيال الدول العربية، انطلاقاً من حسابات عقلانية، إلا أن مصادر أخرى ضمن عملية صياغة القرار السياسي تقدم نصائح في الاتجاه المضاد.
الولايات المتحدة بلغت(حتى الآن) اليأس من إيجاد طرف معارض سوري يعمل على طمأنة هواجسها، وهي تعلم أن ذلك ليس بيسير، والأشكال السياسية التي سيتاح لها أن تنشأ وتتكون في المراحل اللاحقة، ستعمل على بلورة مواقف ستزيد من صعوبة تحرك الولايات المتحدة في منطقة كانت تتحرك فيها بسهولة إلى الماضي القريب، لذلك فالحل الأمثل في نظر السياسة الأمريكية، أن تتواصل المعارك حتى تفرز واقعاً سياسياً جديداً، وإذا كان دعم النظام علناً سيمثل فضيحة على كافة المستويات فليتحمل الروس وحدهم وزر ذلك، وقد عبروا عن ذلك صراحة، إلا أن القبول بنظرية سقوط نظام آل الأسد سيعني تداعي أحجار دومينو أخرى في المنطقة، وصعود قوة غير مضمونة في سوريا وما ستمثله من تأثيرات في الساحات المجاورة (لبنان، إسرائيل، العراق، الأردن) وهو ما يمثل مجازفة يصعب القبول بها، وهو ما يفسر المواقف المائعة للغرب والولايات المتحدة خاصة.
أما الروس، فهم كانوا بصدد بناء حائط دفاعي جديد، فوجدوا في قيام محور إيراني، عراقي، سوري، لبناني تدعمه موسكو هو باكورة مشروع القوة الروسية العظمى، الذي يفتقر لليوم إلى قوة المثال الذي يطرحه، وإذا خسر هذا المشروع أحد أضلاعه المتمثل في النظام السوري، فسوف يمثل لها خسارة آخر موقع لها في الشرق الأوسط، وهو ما يعبر عنه الدفاع المستميت عن نظام يفتقر إلى كل شيئ، بأعتراف الرئيس بوتين نفسه، كما سيتعين على موسكو أن تعيد النظر بجدوى التحالف مع نظام الملالي الأكرليكي في طهران، القائم على قوة القمع ليس إلا، وثقافياً على أوهام تبلغ درجة الخرافات.