مرجعية القرآن في مشروع البعث الإسلامي
مرجعية القرآن في مشروع البعث الإسلامي
عبد العزيز كحيل
يُنتظَر من الحركة الإسلامية - بعد النقلة العميقة المؤثّرة التي أحدثها الربيع العربي في دوائر الفكر والوعي والتحرّر النفسي- أن تعمل على رفع الجماهير إلى مستوى القرآن بعد أن دفعت عواملُ كثيرة طيلة أحقاب إلى الهبوط به إلى مستواها، بذلك تعود لكتاب الله حيويّتُه وفعاليتُه وتتجاوز بهما المستوى النفسي إلى آفاق العقول والممارسة المستوعبة للحياة كلّها في أبعادها الشخصية والأُسرية والسياسية والاجتماعية والعالمية ، وهذا ليس أمرًا هيّنًا في ظلّ الفصام الذي وقع منذ زمن بعيد وباعد بين القرآن والفعل الحضاري وأحال القرآن الكريم إلى نصّ جنائزي أو مرجع للغيبوبة الحضارية، ولا ينبغي الانخداع بكثرة حَفَظة الكتاب الكريم، فبقدر ما ساهم ذلك في بقاء الوحي المصون في الصدور والألسنة تلهجُ به – وهذا واجب على الأمة من غير شكّ – فإنّه في أكثر الأحيان حفظٌ أقرب إلى الأشرطة المسجّلة، بينما تقتضي مكانة القرآن أن يكون الحفظ واعيًا وأن يكون الحُفّاظ نماذجَ حيّة في الفهم والعمل لأنّ ذلك ضروري – ليس فقط لاستمرار القرآن، فقد تكفّل الله بحفظه – ولكن لرسم معالم طريق استئناف الحياة الإسلامية وتبشير الإنسانية بالإسلامية العالمية الثانية – بتعبير محمد حاج حمد رحمه الله - ، وكتاب الله تعالى ليس حكرًا على الحُفّاظ ولا حتى على المسلمين وحدهم كما يتوهّم أكثرُنا بل هو كتاب البشرية كلّها كما تنطق آياتُه البيّنات، وقد وزّع الله الفهوم بين الناس لترتسم في النهاية لوحة بديعة تلتقي فيها قيم الحق والخير والجمال، تستقيها من القرآن وتُصلح بها حال النفوس والمجتمعات وفق خطط علمية دقيقة تمتدّ طولاً وعرضًا وعُمقًا في حياة المجتمع المسلم المُراد نقلُه إلى دوائر الرقيّ المادي والروحي، وهذا يقتضي الانتباه إلى ثلاث مسائل أساسية:
· العقلانية الإيمانية: تفتقر ساحات التديّن الإسلامي التقليدي إلى التركيز على العقلانية، أي إعمال المَلَكات الذهنية بقوة وباستمرار سواء في فهم الوحي أو الواقع المعقّد أو تناولهما معًا في إطار تنقيح المناط وتحريره وتخريجه، لإبعاد أيّ خلل يطرأ في الأذهان عن شبكة سنن الله الكونية والإنسانية والاجتماعية، وهذا هو التفكير العلمي الذي يبعث الراحة في النفوس، وهو ضرب من الصحة العقلية، فالتعامل الواعي مع القرآن الكريم يقتضي حتمًا توفّر العقلية العلمية، وهو يُنشئها ويرعاها ويدعو إليها بإلحاح، وإنما حدثت المشكلة عندما زال التمييز بين العقل والغلوّ فيه كندّ للوحي أو بديل عنه كما وقع مع أدبيات المعتزلة قديما والمنهجية العلمانية في عصرنا الحاضر، ولا يمكن أن يستمرّ الفهم المجافي للحقيقة إذا أردنا للمشروع الإسلامي أن يجمع الطاقات ويكتسح الآفاق، والعقل – باختصار- ليس آلة أنّما هو وظيفة كالكتابة والسباحة مثلا، ولا يُقال إنّ أحدهم ليست عنده كتابة، بل يُقالُ إنه لا يكتب، فاسترداد هذه الوظيفة في إطار المبادئ والضوابط الشرعية هو العقلانية الإيمانية المتّسمة بالعلم والوعي والذكاء والاعتدال في كلّ أشكال أدائها، ومن شأنها أن تجعلنا نُرشد الرؤوس ونهديها بدل قطعها، كما يحدث عند ضمورها في المكوّن المتديّن، كما أنّ من شأنها – ليس فقط اكتشاف وسائل جديدة من أجل معرفة أفضل أدوات الحكمة والموعظة الحسنة – ولكن أيضا لمحاولة إفساد كل وسائل الشيطان وأساليب الجاهلية المدمّرة التي تغزونا روحيًا وثقافيًا وتُعرقل نهضتنا، ومن شأنها أخيرا أن تُبعدنا عن العقلية التآمرية، تلك العقلية الذرائعية التي لا تبحث عن حلول بقدر ما تبحث عن تبريرات للأخطاء.
والحاجة ماسّة اليوم إلى تكثيف الجهود لبناء ودعم هذه العقلانية الإيمانية لدى الأمة كلّها ولدى النخبة القائدة بالدرجة الأولى، من غير خوف من إضافات " باسكال " و " ديكارت " وغيرهما، لأنّ بين أيدينا الوحي العاصم من الزلل الذي يتيح لنا غربلة كلّ الإضافات البشرية لننتفع بالمساحات الجيّدة التي تشكّل إرثًا إنسانيًّا، ويجب أن تنطلق العقلانية الإيمانية من الفضاءات الدينية كالمساجد والكليات الشرعية والكتاتيب ونحوها، وتزدهر فيها، فإذا تمّ ذلك انسابت بسهولة إلى باقي الفضاءات والدوائر وأمدّتها بوقود قويّ وشحنة مناسبة لمهمّة المسلمين في الحقبة الحالية، بعد أن كانت العقلانية فريضة معطّلة في الصفّ الإسلامي، يدّعي احتكارَها العلمانيون المقلّدون للنمط الغربي ، المنسلخون من المرجعية الإيمانية .
· القرآن والسموّ المدني: لا تعود البصمة العلمانية في حياة المسلمين إلى الغزو الاستعماري كما هو شائع بل سبقته منذ أن انفصل القرآن عن السلطان والثقافة عن السياسة، وأخذت تتبدّى شيئا فشيئا حتى استوت على التصوّر الكلّي للحياة وداهمت مجالات الحُكم والمال والتربية والفنّ وغيرها، ووصل تأثيرها إلى الخطاب الديني عامّة، والمسجدي بصفة خاصّة، الذي تخصّص في الجانب التعبّدي وأغفل إلى حدّ بعيد المجال الحياتي، فأصبح ما لله لله وما لقيصر لقيصر، وأخطر ما في الأمر أن طغى الجانب التعبّدي وهان الجانب المدني من حيث التأصيل الشرعي والمقاربة الفكرية، وانعكس ذلك على سلوك المسلمين، ولنا أن نتصوّر ردّ فعل المتديّنين إزاء رجل يسجد لصنم، فلا شكّ أنّ ذلك سيستفزّهم ويبعث فيهم مشاعر الغيظ وقد يدفعهم إلى ردود أفعال عنيفة، لأنّه في نظرهم أقصى أشكال المنكر، لكن ما موقفهم من تزوير الانتخابات والاستبداد السياسي وشرك القصور؟
لا شكّ أن الموقف سيتراوح هنا بين الإنكار القلبي واللّامبالاة والاستناد إلى العقائد الجبرية التي تسلب الناس الحقّ في ردّ الفعل " ولو ضرب الظهر وأُخذ المال "، فهل ينسجم هذا مع الإسلام الذي حرّر البشر وأرسى في كتابه وسنة نبيّه ثقافة العيش في سبيل الله؟ أليست الدنيا مزرعة الآخرة؟ أي لا حظّ في جائزة الجنة إلاّ بتسيير شؤون الدنيا وفق الرؤية الدينية والمقاييس الشرعية على المستوى الفردي والجماعي، وهذا هو السموّ المدني الذي نتحدّث عنه والذي ضمر عند الجماهير المسلمة وحتى عند بعض الأوساط القانعة بالتديّن التقليدي المستمسك بالأشكال وبالقديم في كلّ الظروف إلى درجة إهمال البناء الحضاري وإخراجه من دائرة الهمّ والسعي المؤسّسي، فخمدت الأفكار واستشرت العادات الفكرية فوقع التراجع عن إبراز قيم الحرية والعدل والشورى والكرامة الإنسانية، والتضحية من أجهلها باعتبارها أركان الإسلام المدنية إلى جانب أركانه الروحية والعقدية المعروفة، والتي يتركّز اهتمام المسلمين حولها تنظيرًا ودعوةً وممارسةً – وهذا أمر واجب بلا خلاف – لكنّ التغاضي عن الشقّ المدني أصاب الشقّ الآخر ذاتَه بالتآكل والسلبية والشكلية إلى حدّ بعيد، لأنه أحال القرآن الكريم إلى وثيقة دينية بينما هو مصدر يبعث الحياة ويبنيها ويصنع معالمها، ومن المُلفت أنّ الوحي عُنيَ كثيرًا ببشرية الرسول صلى الله عليه وسلم رغم تسليم الجميع بذلك، ليؤكّد أهلية البشر لتحمّل رسالة السماء والعيش بها في مجتمعاتهم، وذلك من " إقامة الدين " التي كلّف الله بها عبادَه، والإقامة تتجاوز الأداء والأشكال لتجسّد الاستقامة والحضور والشهادة بمعناها الحضاري، فالمسألة تقتضي أكثر من المراجعة وتفرض علينا البدءَ بثورة ثقافية تثقيفية شاملة تصحّح الفهم حتى لا يبقى السموّ المدني من سمات الغرب يُحكّم فيه معاييره، وطوقُ نجاة الأمة لا يكمن في التشنيع على الغرب وازدواجية مقاييسه ولا في التكفير ولكن في الاجتهاد والتجديد والإبداع لنستأنف الإشعاع الحضاري الجامع بين الربانية والإنسانية، ونخرج بالقيم من بطون الكتب وقاعات الدرس إلى فضاءات الحياة تحت راية الإسلام، وهذا يقتضي تكوين الإنسان المتأهّب للبناء على أنقاض ذلك الإنسان الذي طال عليه الأمد فنسي مفاتيح أبواب السؤدد التي بين يديه وعاش في غيبوبة حضارية على هامش الزمان والمكان وهو يحسب أنه يتمثّل حقائق الدين وأحكامه.
إنّ إشاعة الحرية وصَون الحريات الفردية والعامّة والدفاع عن حقوق الإنسان ومحاربة الاستبداد السياسي ورفض الظلم الاجتماعي وكلّ أشكال التمييز الجائر بين البشر بضاعتُنا بالأصالة، يزخر بمعانيها وحقائقها القرآنُ والسنّةُ، وليست من الوافد الثقافي في شيء، وإنّما أصبحت تُنسَب للمنظومة الفكرية الغربية في زمن تراجعنا الحضاري الذي جعلنا فيه الحياة عضين، نُعنَى بالجانب الروحي إلى حدّ الإفراط ونُغفل الجانب المدني إلى حدّ التفريط، ولا بدّ من التسليم أنّ تفوّق الأمم الغربية لا ينحصر في التقنيات وحدها بل ينطلق من العناية بالإنسان وحقوقه وحرياته وكرامته، نعترف بهذا رغم تحفّظاتنا على النمط الفلسفي الذي يُصدر عنه .
· شؤون المعاش والتمدّن: يُفضي بنا هذا إلى دائرة الاهتمامات المعاشية وحقيقة التمدّن، لتحويلها من رتابة العيش الفردي إلى الرؤية الإسلامية الصحيحة التي تجعلها شعبة من العبادة تدور في محاور الخلافة والعمارة، تجلب الأجر وتؤهّل المسلمين للريادة في الدنيا وتبوّؤهم مقامات الصدق في الآخرة، ولا يتّفق هذا إطلاقًا مع تبعية الأمّة للغرب في الغذاء والدواء والسلاح والمعرفة، والفرق بين المعاش في ظلّ التبعية وفي ظلّ الاستقلالية شيء جوهري حاسم، هو الفرق بين حياة الذلّ وحياة العزةّ، وبين البهيمية و الإنسانية " والذين كفروا يتمتّعون ويأكلون كما تأكل الأنعام " – سورة محمد، ويُقال نفس الشيء عن التحضّر والتمدّن، فنحن لا ننكر فتوحات الغرب الحضارية ولكن نتأسّف لضياع تميّز المسلم، ونحن – في هذا الصدد – في حاجة إلى إصلاح الأذواق التي أفسدتها حملات التغريب، وقد أصابت السمع والبصر واللباس والطعام والشراب والهندسة المعمارية وغيرها، أي امتدت إلى شخصية الإنسان كلّها ومناحي الحياة الاجتماعية بلا استثناء، وهذا مجال واسع للإصلاح العاجل حتى يستعيد التمدّن معناه الراقي بعد أن ابتذلته الفلسفات المادية الانحلالية التي نستوردها مع الكتاب والصحيفة وعُلب الطعام وأدوات الصناعة، ويدخل في إطار الإصلاح المنشود إعادة صياغة المسلم – فردًا ومجتمعًا – وفق النظرة الإسلامية للحياة الدنيا وما تحويه من ارتباط المعاش بالأخلاق – في مجالات الإنتاج والتسويق والتوزيع والاستثمار- وسموّ معاني القناعة النفسية وترشيد الاستهلاك ونبذ التبذير والإسراف وإحياء قيمة التوفير وحماية البيئة والمحافظة على مصادر الرزق والطاقة ومقوّمات البقاء للجنس البشري، وقبل كلّ هذا ينبغي التأكيد التأصيلي القويّ على شمول المشروع الإسلامي لجميع مناحي الحياة البشرية ليحتوي المناهج التربوية وسياسة الحكم والمال والدورة الاقتصادية وشؤون الصحّة والعمران الفنّ، يتناولُها تناولاُ علميًّا ويُضفي عليها المسحة الأخلاقية لتكون مصدر رخاء ماديّ وراحة نفسية للمجمع.
ولا شكّ أنّ دائرة المعاش تشمل جزئيّات الترفيه والرياضة والسياحة وجمال المحيط، وللإسلام فيها أحكام وآداب وضوابط وحوافز باعتبارها من مكوّنات الحياة الإنسانية، ولا مفرّ لأصحاب المشروع الإسلامي أن يضعوا لها البرامج الواضحة المفصّلة التي تتجاوز الشعارات ورؤوس الأقلام لتصبح جزءا من الدين، تشملها أدبيات الأحزاب والحركات والجماعات، ويتناولها الدعاة والخطباء بالتدريس إلى جانب العبادات والأخلاق والسيَر ونحوها، واستمرارُ إهمالها خدمة مجانية نقدّمها للعلمانية ولخصوم الإسلام ليتحرّشوا بنا تنظيرا وسلوكًا، لأنّنا نكون قد أخلينا ساحات خطيرة وأسلمناها لهم لقلّة أهميتها أو هامشيّتها كما ساد التصوّر الغالب منذ عصور الانحطاط، وهي ليست هامشية قطّ، خاصّة في زمن العولمة المتألّقة الضاغطة على الشعوب ببريقها ووهجها، فلا مفرّ من إعادة تناول هذه الدوائر المتواجدة في حياتنا وحسن تأصيلها تأصيلاً شرعيًا رصينًا لا أثرَ فيه للتكلّف ولا للانهزامية، والمسلمون بشرُ كغيرهم، لهم نفوس حساسة ووُجدان وعاطفة وميلٌ إلى الترويح واللهو، ولكن يميّزهم الانضباط الخُلُقي والالتزام ب
الاعتدال في كلّ شيء.
إنّ المرجعية الإسلامية تمتاز بهذا الشمول الذي وَجدَ طريقه إلى التجسيد المجتمعي في العصور الأولى ثمّ خبا وكاد يندثر تمامًا، لذلك تحتاج حركة البعث الإسلامي ما بعد الثورات العربية ليس إلى العودة إليه تطبيقًا فحسب بل يجب عليها بذل جهود مضنية لإعادة طرحه والتدليل عليه والإقناع به على جميع المستويات لتنوير العقول وطمأنة النفوس وتنشيط الكفاءات في سبيل مزاحمة العلمانية المتحكّمة وخوض معركة التدافع الحضاري بحقائق الوحي وأدوات العصر حتّى تلتفّ الجماهير المؤمنة حول مشروعها الأصيل وتبذل قصارى جهدها لخدمته والحرص على تجسيد كلّ مكوّناته.