عشارية معادلات النجاح الحمساوية
من وحي مهرجان الانطلاقة
جمال زواري أحمد ـ الجزائر
ونحن نتابع مهرجان الانطلاقة المخلّد للذكرى الخامسة والعشرين لتأسيس حركة المقاومة الإسلامية حماس ، انبهرنا بالمشهد الرائع الذي صنعته الجموع الهادرة ، التي اكتسحت ساحة الكتيبة الخضراء في غزة ، تعلن ولاءها ووفاءها وتجدد البيعة للحركة وقيادتها ومنهجها ومشروعها وشهدائها ، وتنقل رسالة واضحة للعالم أجمع ، بأن حماس هي المستأمنة على القضية ، وأن الشعب الفلسطيني أو غالبيته العظمى قد استودعها أمانة القضية بكل ما تحمله من حقوق وثوابت.
وأن أيّ طرف أو جهة إقليمية أو دولية تريد التدخل أو المبادرة ، فحماس هي بابها الكبير ، وأن تجاوز هذه الحقيقة والواقع ، هو افتئات على القضية والشعب والمنطقة ككل ، وأن المكابرة في تجاهل ذلك أو إنكاره أو القفز عليه ، هو الذي ساهم ويساهم في تسطيح الحلول وفشل المبادرات وتضييع الفرص ، لمن يطرحون أنفسهم كوسطاء ــ خاصة من الدول الكبرى ــ وإن كان معظمهم ــ إن لم يكونوا كلهم ــ في الحقيقة لا تتوفر فيهم مواصفات الوسيط ، بقدر ما هم منحازين للطرف المعتدي الظالم المحتل .
كما أن هذا المشهد المهيب ، يجعلنا ندرك ويدرك الجميع ويتأكدون ، أن الانتصارات المتتالية ، والإنجازات العظيمة ، التي تحققت وتتحقق في غزة ــ رغم الحصار والتضييق والمؤامرات ــ ، لم تكن من ضربات الحظ ، بقدر ما كانت نتيجة منطقية لكل المشهد الجميل الذي تابعناه ، وما يقدمه من دلائل عملية واقعية للقاصي والداني ، على أن ذلك كله ثمرة يانعة للمجهودات والتضحيات الكبيرة المقدمة على درب العمل والمقاومة والجهاد .
أحرى بكل الحركات الإسلامية في جميع الأقطار ، أن تستوعب دروس حماس العملية الكثيرة في غزة ، وتحسن التلمذة عليها ، وأن لا تبقى فقط أسيرة الإعجاب لما ترى وتتابع ، حتى يتكرر لنا هذا المشهد الإبداعي في أكثر من قطر ، مع تأكيد أن الظروف والبيئة تختلف من قطر إلى آخر ، ومع ما تشكله القضية الفلسطينية من خصوصية ، لكن ذلك لا ينفي ضرورة استيعاب هذه التجربة الرائدة ودروسها الماثلة للعيان ، وتطبيقها العملي ، مع بعض البهارات والتوابل المحلية لكل حركة.
ومن وحي مهرجان الانطلاقة ، والذي تزامن لأول مرة ، مع الزيارة التاريخية لرئيس المكتب السياسي خالد مشعل والوفد القيادي المرافق له إلى غزة ، استخلصت عشارية من المعادلات والمعالم والدروس الكبرى والتي ساهمت ــ بعد عون الله وتوفيقه وتسديده ــ في صناعة المشهد الذي رأيناه وعشناه بقلوبنا وعقولنا ، وكانت مجتمعة ــ في اعتقادي ــ وقودا للنجاح المتكرر والتراكمي لحركة حماس ، والذي لا يستطيع أن ينكره الأعداء قبل الأصدقاء ، أقدّمها كجدول تشغيل أو لوحة قيادة ، للحركات الإسلامية على وجه التحديد ، كي تستوعب وتستفيد :
1) ــ بركة دم القادة في سقي الشجرة وزيادة نمائها :
حيث أن هذه المعادلة تثبت ، أنه كلما ارتفع قائد إلى ربه شهيدا ، كلما زاد تجذر شجرة الحركة وزاد نماؤها ، ببركة الدم الطاهر ، ولو علم العدو الإسرائيلي المفعول العجيب لهذا الدم الزكي ، في صناعة زخم موجات الانتماء والولاء والثقة لحماس ومشروعها ونهجها ، لأعاد حساباته في جرائمه باستهداف القادة ، ولكن يأبى الله عز وجل أن يفقه هؤلاء المجرمون هذه المعادلة.
2) ــ القوة الشاملة تفرض الاحترام على الجميع :
حيث يظهر أنه بقدر ماإستطاعت حماس أن توفر من عناصر القوة الشاملة لديها من سياسية وعسكرية ودعوية وثقافية وإعلامية وجماهيرية واجتماعية ومؤسساتية وهيكلية وتنظيمية وأخلاقية ، بقدر ما فرضت احترامها على الجميع ، سواء في الداخل الفلسطيني أو في الخارج ، لأنه إذا لم تكن تملك مقومات القوة المختلفة ، فإنه لا يعيرك أي طرف أي اهتمام ، فلا قيمة لضعيف أو فقير وسائليا أو باهت شعبيا وتنظيميا ، ولو رأينا تغيّر مواقف البعض حتى من خصوم الحركة ومنافسيها ، بعدما كانوا يكابرون ويزايدون ويشككون ويطمسون ، لعلمنا صحة هذه المعادلة وفعاليتها : أن الاحترام تفرضه وتجعله أمرا واقعا ، بقدر ما تملك وتوفر من عناصر القوة الشاملة لديك ، وليس منة تمنح من الآخرين ، طبعا نحن نتحدث عن الاحترام في ميدان التدافع والصراع .
3) ــ زيادة الانتشار والتجذر بعد استشهاد المؤسس :
فعادة ما تصاب الحركات بهزات وفتن ومشاكل تنظيمية ، بعد وفاة مؤسسها ، أدّت ببعضها إلى انقسامات وأزمات ، ساهمت في انحسارها وتراجعها ، واستهلكت واستنفذت الكثير من الجهود والأوقات لمعالجتها وتجاوز آثارها ، لكن في حماس المعادلة مختلفة تماما ، حيث بعد استشهاد المؤسس زاد انتشار الحركة وتعمّق تجذرها في صفوف الشعب الفلسطيني في الداخل وفي الشتات ، وارتفعت أسهم قبولها لدى الجميع ، وتطور رصيدها الشبابي والكوادري والشعبي والهيكلي والتنظيمي ، أكثر بكثير ممّا كانت عليه في عهد المؤسس الشيخ أحمد ياسين رحمه الله وفي حياته ، ولم نر أو نسمع بوجود خلافات أو انقسامات ذات بال بعدما استشهد الإمام المؤسس ، حول مسار الحركة أو تسييرها.
4) ــ الخروج بعد كل ضربة أكثر قوة وصلابة :
فعادة كذلك ما تؤثر الضربات المتتالية والأزمات المستمرة على أي مستوى من المستويات ، على الحركات التي تتعرض لذلك بشكل سلبي في الكثير من الأحيان ، لكن في حماس المعادلة تقول عمليا : أنه بعد كل ضربة تستهدفها تزيدها قوة وصلابة وتماسك ، وترفع من قدرتها المناعية ، وترسي أسس استعصائها ، حيث تجسد حماس واقعيا قاعدة: الضربة التي لا تكسر ظهرك تقوّيك .
وهي معادلة مهمة في ميزان الصراع ، حيث تفت بها في عضد عدوك وتربكه بها وتخلط له أوراقه ، ولا تجعله يهنأ حتى بتفوقه في موازين القوى غير المتكافئ بنيك وبينه ، وهو الذي نجحت فيه حماس بامتياز.
5) ــ المزاوجة الموفقة بين السياسة والمقاومة :
حيث راهنت الكثير من الأطراف حين دخول حماس معترك العمل السياسي والمنافسة الانتخابية ، على أن ذلك سوف يكون على حساب نهجها المقاوم ، وأنها سوف تتخلّى بالتدريج عن المقاومة ، عندما يمارس قادتها وكوادرها السلطة ، وإذا بها تخيّب ظن هؤلاء ، وتنجح نجاحا لا فتا في صناعة معادلة التوفيق والمزاوجة بين السياسة والمقاومة ، حيث استثمرت نجاحها السياسي في تقوية قدراتها المقاومة وجناحها العسكري تحديدا ، ظهر ذلك جليا في احترافيته الكبيرة في معركة حجارة السجيل الأخيرة.
6) ــ وضوح الهوية الحركية والتمسك العملي بها :
راهنت بعض الأطراف كذلك على فقدان حماس لهويتها الحركية التي أسست على أساسها ، خاصة بعد إمساكها بمقاليد الأمور في غزة ، وأن إكراهات السلطة ومستلزماتها ستكون على حساب وضوح الهوية الحركية لحماس ، وانتمائها الفكري والتنظيمي ، وخطها السياسي والجهادي ، وإذا بهذه الهوية الحركية تزداد وضوحا وإعلانا وتجسيدا وتمسكا بها ، بعد كل نجاح وانتصار يتحقق ، سواء كان عسكري أو سياسي ، وإذا بهذه الهوية الحركية الحمساوية نلمسها حيّة واضحة معلنة مجسدة مهضومة لدى الجميع ، من أبسط جندي إلى أعلى قائد .
فمعادلة وضوح الهوية الحركية لدى حماس ، جعلها عصية على كل إرادات التدجين والارتهان لدى أي جهة أو طرف إقليمي أو دولي ، في صراع المحاور الذي صاحب القضية مدى تاريخها كلّه ولا زال شغالا.
7) ــ القدرة الفائقة على الحشد والتجنيد :
فقد راهنت بعض الأطراف كذلك ، على غرق حماس في مستنقع السلطة والسياسة ، في ظل ظروف غير طبيعية ، تحيط بالمشهد الفلسطيني وقطاع غزة تحديدا ، ممّا سيدخل حماس ــ هكذا كانوا يراهنون ــ مع مرور الوقت ، في مواجهة مع الشعب ، بعد فشلها في تلبية حاجياته الاقتصادية والاجتماعية والخدمية والأمنية ، وضرب عنصر الثقة الشعبية بها وبنهجها ومشروعها ، ومن ثم تجريدها من نقطة قوتها المحورية ، المتمثلة في الثقة والقبول والسند الشعبي ، حيث كان هذا من الأهداف ذات الأولوية لديهم للحصار الظالم على غزة ، فحرمانها بذلك من قدراتها التجنيدية ، ولكن العكس هو الذي حدث ــ رغم كل المؤامرات ــ حيث أن قدرة حماس على الحشد والتجنيد تتزايد بشكل تصاعدي منقطع النظير ، والصورة أبلغ من الكلام ، فالمارد الأخضر تتوسع بقعته بشكل لافت في كل مهرجان من مهرجانات الانطلاقة أو غيرها.
8) ــ التلاحم الكبير بين القيادة والجنود والشعب الحاضن :
كذلك من المعادلات المهمة الصانعة للنجاح ، والتي أوحى بها مهرجان الانطلاقة ، ذلك التلاحم الكبير بين قيادة حماس وبين جنودها ومعهما الشعب الحاضن للحركة ولمشروعها ، حيث نلحظ ذلك بوضوح خلال زيارة خالد مشعل إلى غزة ، لنرى ذلك التلاحم العجيب بين القائد وجنوده وشعبه ، رغم أن الأغلبية الساحقة منهم ، لم يلتقوا بأبي الوليد طول حياتهم .
هذا التلاحم الذي راهنت الكثير من الجهات الداخلية والخارجية على تكسيره ودق أسافين التشكيك والوقيعة واللاثقة في جداره ، لكن باءت كل محاولاتها بالفشل الذريع.
9) ــ الإصرار على ثوابت القضية يصنع الفرق :
كذلك معادلة مهمة أخرى للنجاح ، أصرت عليها حماس وقيادتها ، ولم تتنازل عنها أو عن جزء منها قيد أنملة ، رغم كل الضغوطات التي مورست عليها ، وهي ثوابت القضية من عدم الاعتراف بإسرائيل إلى تحرير كامل الأرض الفلسطينية إلى القدس إلى عودة اللاجئين إلى أراضيهم التي هجّروا منها قصرا وغيرها من الثوابت ، هذا الإصرار والاستماتة في الدفاع عنها ، هو من المعادلات التي صنعت وتصنع الفرق ، في العمق الشعبي الفلسطيني ، بين حماس ومن ورائها كل فصائل المقاومة ، وبين أصحاب نهج التنازل والتفريط والتفاوض والرضا بالفتات.
10) ــ الدور المحوري للمرأة في مشروع حماس ومسارها :
حيث عملت قيادة حماس ومؤسساتها منذ البداية ، على أن يكون للمرأة الفلسطينية ، دور محوري في التمكين لمشروع الحركة وخدمة القضية ، فكانت المرأة الحمساوية أما وأختا وزوجة وبنتا وحتى جدة ، شريكة الرجل سواء بسواء ، في كل ميادين العمل المختلفة ، فلن يخلو ميدان أو مجال إلا وتجد للمرأة فيه بصمة وشراكة ، فتجد السياسية والنائبة في التشريعي والمجاهدة والمقاومة والاستشهادية والشهيدة والأسيرة والشرطية والإعلامية والكاتبة والأديبة ورسامة الكاريكاتير، الكل ينصهر بجهده وجهاده والقيام بواجبه ، في بوتقة خدمة المشروع العام ، مهما كان سنه أو جنسه أو موقعه أو مستواه ، لتؤكد المرأة الحمساوية عمليا ، أنها مسؤولة كأخيها الرجل تماما ، وأنها لا ولن تفرط في نصيبها من التضحية والجهاد ، ونيل شرف خدمة القضية ، بكل الوسائل والأساليب ، وتسخير كل الإمكانات والقدرات والمواهب ــ إلا ما تحول بينها وبينه الضوابط الشرعية ــ .
فهذه عشارية المعادلات الحمساوية ، التي ساهمت في صناعة النجاح ، الذي حققته وتحققه حركة حماس ، والتي أوحى لي بها ذلك المشهد الرائع لمهرجان الانطلاقة المخلد لذكرى التأسيس الخامسة والعشرين.
فكل عام وحماس مدرسة متجددة ، تعطي الدروس تلو الدروس ، لمن يريد أن يتتلمذ بحق وصدق.