الأحزاب العربية إلى أين؟

الأحزاب العربية إلى أين؟

د.أحمد محمد كنعان

ما يزال الوطن العربي منذ عهد الاستقلال وحتى اليوم يعاني من حالة الاستبداد السياسي الذي جعل الشعب مرتهناً في أيدي الحاكم ، ولم يغير من هذه الحقيقة نشأة العديد من الأحزاب السياسية في طول الوطن العربي وعرضه ، هذه الأحزاب التي كنا نأمل منها أن تصحح المسار ، وأن تقوم بدورها الفاعل في التغيير وفي التعبير عن آمال الشعب وتطلعاته ، إلا أن تاريخ هذه الأحزاب منذ الاستقلال وحتى الآن ظل مخيباً لآمال الجماهير العربية ، فقد انحاز كثير من هذه الأحزاب إلى صف الحاكم وأعانه على الفساد ، وارتبط بعضها بأجندات خارجية مشبوهة ، وتبنى بعضها الآخر إديولوجيات تتناقض مع دين الأمة وتراثها وعاداتها وتقاليدها ، وانشغلت أحزاب أخرى بهموم صغيرة متجاهلة الهموم الكبيرة التي تكاد تعصف بهوية الأمة ومصيرها ، وبقيت قلة قليلة جداً من هذه الأحزاب تتبنى بالفعل قضايا الأمة وتناكف الحكام من اجل تحقيق الاستقلال الحقيقي ، والإقلاع بالأمة نحو مستقبل جديد لطالما ظلت الأمة تتطلع إليه .

ولسنا هنا بصدد الخوض في الأسباب والعوامل التي انتهت بالأحزاب العربية إلى هذه النهايات المخيبة للآمال ، ولكن حسبنا في هذه العجالة أن نستعرض الصورة الراهنة لهذه الأحزاب ، مع وعد بأن نعود في مقالة لاحقة إلى مناقشة تلك الأسباب والعوامل بالتفصيل :

 

1.    ولعل أول الظواهر الحزبية السلبية التي باتت معروفة للقاصي والداني أن الأحزاب العربية ـ حتى في أفضل التجارب العربية ديمقراطية ـ لا تحكم ، حتى وإن نص دستور البلاد على حقها في الحكم والتناوب على السلطة ، وتكتفي معظم أحزابنا العربية بالفوز ببعض كراسي البرلمان ، وينتهي دورها بالنوم في تلك الكراسي إلى موعد الانتخابات التالية !

 

2.    مع تكريس فكرة "الأب القائد" و "الزعيم الأوحد" و "قائدنا إلى الأبد" وما شاكل ذلك من أوصاف التبجيل التي وصلت في كثير من الحالات إلى درجة التقديس ، فقد تحولت فكرة "الحزب الحاكم" عندنا إلى "حزب الحاكم" فالحزب الذي يسمح له بالتواجد على الساحة هو الحزب الذي يعطي ولاءه المطلق للحاكم ، ويرضى بأن يكون مجرد أداة طيعة بيده ، لكي يمرر من خلاله فرماناته السلطانية !

 

3.    وتزيد الصورة قتامة حين نرى الحاكم يتفضل على الحزب صاحب الأغلبية فيكلفه بتشكيل الوزارة ، مع احتفاظ الحاكم بحقه المطلق في حل الوزارة متى شاء ، غير عابئ بالدستور ، وهي ظاهرة مسرحية هزلية باتت تعرض فصولها في طول الوطن العربي وعرضه .. مع أنها لم تعد تضحك أحداً !

 

4.    وأدهى من هذا وذاك أن بعض البلدان العربية مازالت إلى اليوم تحظر تشكيل الأحزاب نهائياً ، بحجة أن "باب السلطان" مفتوح على مدار الساعة لسماع شكاوى الرعية .. فما هي الحاجة إذن لوجود الأحزاب ؟ ثم إن الأحزاب مكروهة في الدين ، ألم تسمع قوله تعالى : ( فًتًقًطَّعوا أمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبراً كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحونَ ) ؟! وهذه كلها حجج واهية متهافتة ، يتلاعب بها الحكام بهدف الاستفراد بالسلطة .. والسياسة .. والقرار جميعاً !

 

5.    تحت وطأة هذا الوضع السياسي المأزوم لم يعد لأحزاب المعارضة أمل في المشاركة الفعلية بالحكم ـ وهو هدف مشروع للأحزاب في البلدان التي تحترم نفسها ـ بل بقيت هذه الأحزاب مجرد ديكورات سياسية ، يوظفها الحاكم توظيفاً إعلامياً خبيثاً ، ليوهم الشعب بوجود حرية سياسية في البلاد ، غير عابئ بأن أحداً من الشعب لا يصدقه !

 

6.    وتساهم بعض الأحزاب الانتهازية في تعميق هذه الأزمة حين ترضى بجزء من "الكعكة" كما يقولون ، فيسترضيها الحاكم بوزارة هنا ، أو إدارة هناك ، ليسكت جوعها إلى السلطة ، وقد يغض الطرف عن بعض تصرفاتها الفاسدة ، ويكلف مخبريه بالمقابل لفتح ملف سري لها يهددها به كلما فكرت بالخروج عن الطاعة !

 

7.    إن تضييق الحكام على الأحزاب تارة ، وتهميشها تارة أخرى ، وملاحقتها باتهامات ملفقة أكثر الأحيان ، أدى إلى إضعاف الممارسات السياسية ، لأنه شغل الأحزاب بهذه المعارك الجانبية ، وأدى إلى عزوف المثقفين المخلصين ذوي الخبرة عنها ، إما إيثاراً للسلامة ، وإما لفقد الأمل بالتغيير ، في ظل سلطة مستبدة غاشمة تأخذ الناس بمجرد الشبهة .. إلى غياهب السجون .. أو عتمة القبور !

 

8.    مما زاد الطين بلة ، أن استبداد الحكام ، واستفرادهم بالسلطة ، انتقلت عدواها إلى الأحزاب العربية نفسها ، فقد استمرأ قادتها الجلوس على "الكراسي" وأصبح من المستحيل إزاحتهم عنها ، ما جعل أحزابنا العربية تعاني من شيخوخة قياداتها ، وشيخوخة كوادرها .. ومن ثم شيخوخة فكرها ، وكوارث ممارساتها !

 

9.    أما الحديث عن الانتخابات داخل الأحزاب فحدث عنها ولا حرج ، إذ لا تقل هزلية عن انتخابات الحاكم نفسه ، فعلى الرغم من أن الأنظمة الداخلية للأحزاب قاطبة تنص بكل صراحة ووضوح على الديمقراطية , وتداول السلطة ، والانتخابات النزيهة ، والشفافية ، والحياد ، وما إلى ذلك من أبجديات الممارسات الحزبية السليمة ، فإن واقع أحزابنا العربية يقول عكس ذلك تماماً ، فما إن يعلن الحزب عن نيته لتنظيم الانتخابات بين كوادره حتى تبدأ المناورات ، ويبدأ اللعب من تحت الطاولة ومن فوقها ، في السر وفي العلن ، لتعود آخر المطاف نفس الوجوه التاريخية فتتصدر قائمة الفائزين ، ويعود أمين عام الحزب إلى "الكرسي" ليردد مواله القديم الذي لم يعد يطرب أحداً !

10. ومن الظواهر السلبية في ممارسات أحزابنا العربية كذلك أنها تشاغلت بالخلافات الإيديولوجية فيما بينها عن هموم المواطن المسحوق ، وهذا ما جعل الجماهير تزهد بالعمل الحزبي وتنفر منه ومن زعمائه ، كما أن تلك الخلافات الحزبية أتاحت فرصة ذهبية للحاكم ليستفرد بالسلطة دون رقيب ولا حسيب ، وجعلت الساحة تخلو له ليسرح ويمرح ويقامر بمصير الوطن على هواه !

وبعد .. فإن هذه الصورة القاتمة تطرح علينا سؤالاً محرجاً ومقلقاً في الوقت ذاته ، مفاده : هل من سبيل لإصلاح الحياة الحزبية في وطننا العربي ؟ ونسارع هنا إلى القول بأن عملية الإصلاح ممكنة ، فلا يأس مع العمل الجاد والنيات الصادقة ، وهذا " الربيع العربي" الذي هلت بشائره يعدنا بالكثير من الآمال المثمرة الطيبة ، لكن مع الانتباه إلى أن عملية الإصلاح لا تتوقف فقط على الدعوة إلى الممارسة الديمقراطية التي تنص عليها دساتير الأحزاب ومنطلقاتها النظرية ، بمقدار ما تتوقف على ترسيخ الممارسات المؤسساتية داخل أروقة الحزب ن واستقطاب الكوادر الحزبية المعروفة بنزاهتها أولاً ، ثم كفاءتها السياسية والإدارية والعلمية المتخصصة ، وإتاحة الفرصة لهذه الكوادر لتمارس إبداعاتها في التجديد للخروج من هذا المستنقع السياسي الذي لم توصلنا إليه الأنظمة الحاكمة وحدها ، بل كان للأحزاب دور لا ينكر في رسم هذه النهاية المحزنة التي جعلتنا اليوم بحاجة ماسة لبداية جديدة .. وللحديث بقية في وقفة قادمة بإذن الله تعالى.