صحافة الملايين وصحافة الملاليم!
صحافة الملايين وصحافة الملاليم!
أ.د. حلمي محمد القاعود
الصحافة مرآة الشعب تعكس ما يجري فيه وتحرض على تصحيح الأخطاء ، وتنمية النجاحات ، وتشكيل الرأي العام ، ومنع المظالم ، والتنبيه إلى المخاطر، وقد تغنّى بالصحافة عند انتشارها في بلادنا شعراء النهضة وأدباؤها ، ووضعوها في مرتبة عالية من الأهمية وجعلوها آية هذا الزمان .
الصحافة اليوم ركيزة البناء الاجتماعي والفكري والسياسي والاقتصادي ، تحتاج إليها كل طوائف الشعب ، ويأملون في أن تكون عونا لهم على حل مشكلاتهم ، وتحقيق أمانيهم وأحلامهم . ولعل إدراك الطغاة لقيمة الصحافة وأهميتها كان من وراء تأميمها وتحويلها إلى بوق يخدم السلطة وينطق باسمها ، وقد أكمل جمال عبد النصر سيطرته عليها في أوائل الستينيات فضم إليه المؤسسات الصحفية الخاصة لتكون بوقا ناطقا بما يريد ضد من يستهدف ، بعد أن عجزت الصحف التي أنشأها ( التحرير – الجمهورية – المساء .. ) عن تحقيق تطلعاته الاستبدادية .
ومنذ ذلك الحين تحولت الصحف إلى أداة تزييف وتضليل وتدليس في يد الحكام الطغاة في مصر ومن قلدوهم في العالم العربي ، فضلا عن تحولها إلى وسيلة قذف وسب وبذاءات ضد الأطراف المغضوب عليها في الداخل والخارج ، مما أوجد طبقة محترفة من الأبواق المأجورة قادرة على تحريف الكلم من بعد مواضعه ، وتغيير الحق إلى باطل ، والباطل إلى حق ، واستطاعت هذه الطبقة أن تبقى بين جمهور الصحفيين على سدة الكلام قرابة ستين عاما ، وتستأثر بتصدر المشهد الصحفي ، وتحول بعضهم إلى مراكز قوة حتى بات الوزراء والمسئولون الكبار يخشونهم أكثر مما يخشون الله ، وصار لبعضهم حيثية تضعه في مصاف الكبار جدا ، وخاصة حين تسمع أن الصحفي الكبير استقبل في مكتبه المسئول الأجنبي الكبير أو الوزير الفلاني المهم أو سفراء الدول الكبرى، وأن مسئولا مصريا كبيرا انتظر في مكتب حضرة الصحفي طويلا حتى تمكن من لقائه ، ثم تظهر له مع ضيفه أو ضيوفه الصور التي تنشر في أماكن بارزة الصحيفة التي يرأس تحريرها .
في الوقت ذاته كانت أجهزة الأمن تنتخب صحفيين من الأجيال الأصغر لتدريبهم وتوجيههم لخدمة النظام الديكتاتوري الظالم ، وتشويه الخصوم ، والرد على ما يثار حول المسئولين في الدولة ، وهو ما يهيئهم لتولي المناصب الصحفية حين يرحل الكبار بالموت أو المعاش أو الغضب الرسمي ، وفي مقابل ذلك تغدق السلطة على هؤلاء وأولئك مالا وامتيازات ومخصصات كبيرة ؛ تجعلهم يسبحون بحمد النظام ويقدسون له ، بل إنهم يقومون بما يطلب منهم لو انتقلوا للعمل فيما يسمى الصحف الحزبية أو الخاصة ، ويقومون بتمثيل دور المعارض الشريف وما هو بذلك لتجميل صورة النظام القبيح أمام الرأي العام الداخلي والخارجي الذي قد ينخدع بما يرى ويسمع ويصدق أن هناك معارضة حقيقية.
وفي العقدين الأخيرين بدأنا نسمع عن ملايين يتقاضاها بعض رؤساء التحرير ، ومساعدوهم ، على هيئة رواتب وبدلات وامتيازات ومخصصات وعائد إعلانات وغير ذلك ، في الوقت الذي يتقاضى فيه مئات المحررين من الصحفيين الشبان والمتدربين ما يمكن تسميته بالملاليم حيث يتقاضى الواحد منهم بضع مئات من الجنيهات لا تكفيه زادا ولا سكنا ولا ملبسا ولا مواصلات ..
يلحق بصحافة الملايين نفر من الكتاب ليسوا صحفيين من الأساس ، ولكنهم يكتبون دفاعا عن النظام ، وتسويغا لجرائمه ومظالمه ، ويبررون تجاوزاته ضد الحرية والكرامة والعدل والمساواة ، وهؤلاء قدموا من مؤسسات علمية وثقافية واجتماعية أو حتى عسكرية مهمتهم هجاء المعارضين وادعاء الاستنارة والتقدمية ، ثم وهو الأخطر مهاجمة الإسلام وتشريعاته والحركة الإسلامية وأفرادها ، لأن السلطان الغاصب يرى في الإسلام والمسلمين خطرا محدقا به ، وبالسادة الأجانب الذين يسبغون حمايتهم الشكلية عليه من أجل تحقيق مصالحهم ، ويسكتون على ممارساته الديكتاتورية وجرائمه ضد الإنسانية !
هؤلاء الكتاب يملكون قدرات خارقة في التملق والتسلق والنفاق والتحول ، وتحريف الكلم عن مواضعه ، والإلحاح على الأكاذيب وتحويلها بذكائهم الشيطاني إلى حقائق وفقا لنظرية جوبلز الشهيرة : اكذب واكذب واكذب .. حتى يصدقك الناس ! ولذا تتم مكافأتهم بمكافآت سخية ، وامتيازات لم يكونوا يحلمون بها في مقتبل أعمارهم حين جاءوا من قراهم ومدنهم لا يملكون شروي نقير !
وقد أنتج هذا الوضع كوارث ضخمة في المؤسسات الصحفية التي سيطر عليها النظام المستبد ، حيث صارت معظمها مدينة بديون باهظة لدرجة أن بعضها الآن وخاصة فيما يسمى مؤسسات الجنوب ، لا يجد المرتبات التي يدفعها شهريا للصحفيين والعاملين ، بل لا يجد ثمن الورق لطبع المطبوعات الشهرية أو الأسبوعية مما يجعلها تتوقف عن الصدور!
كانت السلطة المستبدة قبل الثورة تغطي الخسائر الذي يذهب معظمها في جيوب الأبواق والمنتفعين بالنظام ممن أموال الشعب البائس ، بل إن بعض الأبواق ليضمن استمراره في منصبه واستمتاعه بالمخصصات والامتيازات الحرام كان يقدم إلى من بيدهم الأمر هدايا من ميزانية الصحيفة على هيئة سيارات فخمة أو ساعات ذهبية يتجاوز ثمنها مئات الألوف ! والشعب البائس المسكين يدفع من عرقه وكدحه ويقف في طوابير الخبز والأنابيب ويشتهي اللحم والفاكهة وأوليات الحياة ، فضلا عن وقوفه في طوابير البطالة وأمام السفارات ، وطوابير الغرق في البحر بحثا عن فرصة عمل في شمال البحر المتوسط ، وللأسف لم يستطع أحد أن يقترب من هذه المفاسد إلا بعد سقوط رأس النظام .
وقد بارك النظام ظواهر مماثلة في صحافة الملايين بدت تجلياتها مع تحرك أميركا للهيمنة الكاملة على الدول العربية عقب حوادث نيويورك وواشنطن في 11/9 /2001حيث احتلت أفغانستان والعراق ، وقامت بتمويل ودعم مجموعات من الصحف والقنوات والإذاعات والمواقع الإخبارية ، صدرت وعملت بأسماء مصرية وعربية ومنحت القائمين عليها وكتابها ومحرريها ؛ ومعظمهم من الذين تمت تربيتهم أمنيا أجورا فلكية غير مسبوقة ؛ للترويج لسياستها وشيطنة الإسلام والمسلمين ، والتبشير بالعرقيات والطائفيات والعنصريات لتقسيم البلاد والعباد !
واليوم حين يتخذ مجلس الشورى بعض القرارات لمواجهة خسائر الصحف التي استولى عليها النظام ، وتتخذ بعض الصحف قرارات مماثلة لوقف النزيف المالي الذي كان يستنزفه أحباب النظام البائد تقوم القيامة ، ولا تقعد!