الثورة الجديدة في علم (الجينات المتحجرة)

الثورة الجديدة في علم (الجينات المتحجرة)

د. خالص جلبي

[email protected]

بقدر ماكانت افتتاحية فيلم ( جوراسيك ـ بارك  JURASIC  PARK ) مثيرة ومسلية (1) عندما أطلت هذه الأوابد ( الديناصورات ) التي انقرضت قبل خمس وستين مليون سنة من ظهر اليابسة ، وكأنها البناية الكبيرة المتحركة ، تهز الأرض بوزن يزيد عن خمسين طن ، وبطول يتجاوز العشرة أمتار ، بقدر ماكانت خاتمته كارثة كاملة ، وفاجعة تدعو للتأمل ، في وجود حيوانات خطيرة من هذا النوع ، حينما تنفلت من أقفاصها بين الناس ، تبطش ببعضها البعض وتفترس الناس ، ذات هيكل مرعب ودماغ صغير قاصر ، بأنياب بطول ( 18 ) سم ، وأظلاف أحدَّ من مشارط الجراحين ، وبوثبات تذكر بحيوان الكنغارو الاسترالي ، فمخرج الفيلم ستيفن شبيلبيرج ( STEVEN  SPIELBERG  ) راعته الحكاية الجديدة والأمكانيات التي تفوق الخيال في قصة الجينات ( البروجرام الوراثي ) في خلية كل كائن حي ، والتي تشبه البذرة في الثمرة ، فأقام العمود الفقري للفيلم على هذه الفكرة ، ولكن قبل الوصول الى طرافة عقدة الفلم والعتبة الجديدة التي يخترقها علم الجينات ، علينا أن نعرف ماهي الجينات أولاً ؟

لغة الجينات السرية تقوم على أربعة حروف فقط :

    في الستينات من هذا القرن استطاع الثنائي العلمي ( واطسون _ كريك ) أن يصلا الى كشف يعتبر _ لعله الكشف البيولوجي الأهم في القرن العشرين _ الى أن الكائنات الحية ومنها الانسان تحافظ على نفسها ، وتكرر وجودها من خلال خريطة هندسية سرية في غاية الدقة والتعقيد ، قد حُفظت في خزانة أمينة مقاومة ، لاتصل اليها أيدي اللصوص والعابثين ، فأما الخزانة فهي نواة كل خلية ، وأما هذه الشيفرة السرية للخلق ( CODE ) فهي وثيقة مكتوبة بلغة لاتشابهها أي لغة في العالم ، ولاتقترب منها لا النقوش المسمارية ، ولا اللغة الهيروغليفية لقدماء المصريين ؟!  والحروف المستخدمة لهذه اللغة السرية مكونة من أربعة حروف فقط ، ومن هذه الحروف الأربعة تكتب اللغة الجديدة ، وهذه الحروف الأربعة هي تراكيب عضوية لأربعة أحماض أمينية هي ( السيتوزين والغوانين والثيميدين والادينين ) فاذا أردنا ترميز هذه الأحماض الأمينية الأربعة بأربعة حروف كانت : ( الألف والسين والجيم والتاء _ أ .. س .. ج .. ت .. )  ومن تتابع هذه الحروف تتشكل كلمات الخلق الجديدة ، ففي نواة الخلية يوجد مجلد ضخم مكون من ( 500 ) خمسمائة صفحة من تتابع هذه الحروف المبهمة ( ا ا س ت ج ت ت ت ج س س ا ج ج س س ت س ا ) التي تشكل لغة الخلق الكاملة ، فبواسطتها تتشكل كل تراكيب البدن؛ من لون القزحية في العين ، ولعاب الفم ، وتراكيب الهورمونات ، وتنوع مكونات بلاسما الدم ، وتباين الانسجة ، وافراز الانزيمات وهكذا ، وبالنسبة لنا فإننا لانفقه شيئا من هذه اللغة التي تنساب بدون فاصلة وهمزة او اشارة تعجب ، ولكن الخلق المستمر يمشي على هذا التتابع والنظم ، وكل شيء يتشكل في جسم الكائنات سواء كانت تفاحة أو ذبابة ،  بعوضة أو جرثوم ، انسان أم حيوان ، فان خريطة تكوين كل شيء فيه يرجع الى اللوح المحفوظ الداخلي ، الذي يملي أوامره حسب الحاجة في اصلاح أي عطب ، أو انجاز أي تركيب ، أو ترميم أي نقص . هذه الخريطة السرية المحفوظة بعناية فائقة داخل نواة كل خلية ( وعدد خلايا الجسم في المتوسط 60 _ 100 مليون مليون خلية ) قد لُفِّفَت ووضعت على شكل خيط رفيع ملفوف بشكل ( كبة ) ، ونفس هذا الخيط الرفيع اذا نظر اليه تحت الجهر المكبر يبدو بشكل خيطين متجاورين ممتدان بنفس الطول والاستقامة ، بجانب بعضهما البعض ، فهما مثل عمودا السلم الذي يمسكه في الوسط ( الدرجات ) ، ولكنه قد لُفَّ بشكل حلزوني ، مثل مصاعد وسلالم البنايات العالية الداخلية . هذا السلم هو في الواقع أشبه بعمود نبات سكر القصب ، أي الحلقات المتصلة ببعضها البعض ، وهي في الخلية كل حلقة مقابل حمض أميني ، وهكذا يتتابع ترابط وتسلسل الأحماض الأمينية ليمتد الى حوالي ثلاثة مليارات هي كامل الخريطة الهندسية السرية المحفوظة للانسان ، وهي في بقية الكائنات أقل فقد تصل في الباكتريا الى بضع آلاف فقط ( آخر كشف أعلنت عنه مجلة صورة العلم الألمانية في عددها العاشر عام 1995 م حيث تم فك الشيفرة الكاملة لجرثوم الانفلونزا الدموية _BACTERIUM  HAEMOPHILUS  INFLENZA  _ وتبين أنها تتكون من ( 8.1 ) مليون حامض أميني وتتكون من ( 1743 ) جين ( كلمة كاملة ) ولم تتم قراءة النص الكامل بعد للوح هذا الجرثوم ، فالكثير من الجينات ذات وظيفة مجهولة ) . والآن اذا نظرنا الى التكوين الكامل للكائن الحي فانه خليط مرعب من التراكيب ، معقد في غاية التعقيد ، ولكن المسؤول عن تكوين كل شيء ، أو تعويض أي نقص ، أو اصلاح أي عطب من عضلة أو عصب أو هورمون ، فإن أمره يعود الى الخريطة الهندسية الأولى الموجودة في نواة الخلية التي تتربع على العرش تعطي الأوامر . ويحدث كل هذا وفق اللوح المحفوظ أي التركيب الكامل لكل شيء في البدن ، فالمليارات الثلاث من الجينات هي كلمات الخلق الأساسية ، وكل مجموعة من عدد محدد من الأحماض الأمينية الأربعة التي ذكرناها هي شيفرة خاصة بانجاز محدد ، فقد نرى ( ا ا ا ت ت س ج س ج س ج س ت ت ت ج س س س ) وتعني هورمونا ما مثل الانسولين المسؤول عن حرق السكر ، أو التستسترون الهورمون المسؤول عن الذكورة في الرجال ، أو تركيب الكولسترول ( شحم الدم ) وهكذا ، فو فرضنا أن الحروف آنفة الذكر تعني ( ركب أيها الجسم هورمون الانسولين ) ونستطيع أن نقرب التصور فيما لو فككنا حروف الجملة السابقة ( ر ك ب ا ي ه ا ا ل ج س م ..... ) فنحن لاندركها مالم نضمها الى بعض ، فكيف اذا كانت مرتبطة بشيفرة سرية خاصة ، هي أعقد بعشرات المرات من أصعب شيفرات مفاتيح خزانات النقد العالمية !! اذاً فهذا الشريط الممتد والمزدوج هو نص كامل من تتابع كلمات وأسطر وجمل ، فيه من الشعر والفكر مالاحد له من أوامر الخلق الالهية لانتاج كل تراكيب البدن العجيبة . اذا فهمنا هذه الحقيقة الأولى فاننا نكون قد كررنا معلومات مضى عليها ربع قرن من الزمان واستقرت ، ولكن لابد منها لترويض البحث أمام القاريء الذي لم يتمرس بعد مع هذه المصطلحات العلمية . وأما الانعطاف الجديد فقد كانت بداياته في ابريل ( نيسان ) من عام 1985 م عندما عرضت المجلة العلمية ( الطبيعة NATURE ) بحثا لشاب غامض سويدي الجنسية من أصل كوبي اسمه ( سفانتي بيبو _SVANTE  PAEAEB ) فيه اختراق معرفي جديد ، فما الجديد الذي جاء به هذا البحاثة من برد السويد القاتل ؟؟

  الاختراق المعرفي الجديد يشق الطريق الى علم ( الاركيولوجيا الجزيئية أو _ البالنتيولوجيا الجينية ) _ مزج علمي الحفريات والصبغيات :       

 استطاع هذا الشاب السويدي الديناميكي النبيه أخذ عينة بحجم رأس الدبوس من مومياء مصرية قد ماتت قبل 2400 سنة (2) قام بعدها بتحليل خلايا الخزعة وأمكن له تحليل التركيب الجيني فيها ، حيث استطاع معرفة ومقارنة الحامض النووي الموجود في مومياء رمسيس الثاني مع أي انسان يعيش على ظهر الأرض اليوم ، وهذا الاكتشاف لم يكن الا رأس جبل الجليد لعلمٍ يزحف اليوم لكشوفات في غاية الأهمية كما سنبين بعد قليل . وبهذه الفكرة الصغيرة اقتربنا من عقدة فلم جوراسيك بارك قليلاً ، والاكتشاف الأخير الذي تم قبل أشهر قليلة ، بدأ يحول الأفكار التي جاءت في فيلم جوراسيك بارك ربما الى حقيقة مع الزمن ، كما حصل سابقا مع ( فريدريك فوهلر ) الألماني عام 1828 م ( FRIEDRICH  FUEHLER ) ومع ستانلي ميللر ( STANLEY  MILLER  ) الأمريكي عام 1953 عندما توصل الأول الى تركيب البولينا ( اليوريا ) والثاني الى تركيب بعض الأحماض الأمينية من مزيج من الميتان والهيدرجين والاكسجين والامونيا ، بعد أن عرَّض المزيج الى الحرارة ولمعات من الكهرباء بين الحين والآخر ولعدة أيام ، وكان من نتيجة هذين الاكتشافين البسيطين إحداث هزة علمية فلسفية ، ذلك أن نظرة العلماء القديمة لم تكن تؤمن أن المواد العضوية يمكن انتاجها بغير العضوية بالذات ، فتم هزها والتقدم باختراعات علمية ، وشق الطريق الى علم جديد هو ( الكيمياء العضوية ) ليس انتاج الكاوتشوك الصناعي آخرها والذي هو أجود من الكاوتشوك الطبيعي ، فالفكرة التي فجَّرها ( سفانتي بيبو ) هي إمكانية الحصول على حامض نووي من كائنات اندثرت منذ فترة طويلة ، ولكنها بقيت محفوظة في برَّاد الطبيعة ، وبقي بيبو يبحث عبثاً عن كائنات عضوية أكثر من المومياء المصرية ويمكن عزل الحامض النووي منها ، ولكن الفضل من الله يؤتيه من يشاء من عباده ، فتم الاختراق الجديد على يد العالم الأمريكي ( راول كانو  RAUL  CANO ) فماهو الجديد والرائع والذي يمثل قفزة نوعية في علم الجينات ، بل والدخول الى عتبة علم جديد والذي يعتبر مزيج من علم ( المستحاثات الجيولوجية ) وعلم ( الجينات الخلوية )

المزيج العلمي الجديد وفتح الطريق لعلم المستحاثات الصبغية أو علم الجينات المتحجرة :      يعتبر العالم جيورج . و . بوينار ( GEORG . O . POINAR ) من الأوائل الذين أشاروا الى هذا العلم الجديد وكتب عنه قبل فترة كتابا بعنوان ( الحياة في حجر الكهرمان ( LIFE IN AMBER ) يقصد بذلك ظاهرة جديدة تم كشفها جيولوجياً ، وهي العثور على كائنات مندثرة منذ ملايين السنين قد حفظت بواسطة صمغ الراتنج ، الذي تحول مع الزمن الى حجر قاسي حافظ شفاف ، هو حجر الكهرمان الغالي ويمكن رؤية الحشرة داخله اثناء تسليط الضوء عليه . هذا التنبؤ العلمي وصل اليه قبل أشهر العالم الأمريكي ( راول كانو ) الذي استطاع عزل نحلة من النوع الذي لايملك ابرة لسع ، من حجر الكهرمان تعود الى ( 25 _ 40 ) مليون سنة ؟!

    الكشف العلمي الجديد المزلزل ( نحلة محفوظة منذ أربعين مليون سنة والجراثيم الموجودة في أمعاءها ترجع الى الحياة بعد تغذية اسبوعين ) :

 يعتبر مختبر الدكتور كانو في القسم التقني الطابق الثالث من جامعة سان لويس اوبيسبو ( SAN  LUIS  OBISPO) في كاليفورنيا أقرب الى أمكنة الاختبارات السرية العسكرية منها الى مراكز البحث العلمي اليوم ، فالمدخل لايدخله أي انسان الا بعد تفتيش دقيق ، وضوء الانذار الأحمر يلتمع بشكل متواصل ، وقفل بحجم قبضة اليد مدلى على الباب الداخلي ، والغرفة في الداخل وكأنها البراد ، والبحث قائم على ساق وقدم ، حيث بدأ تدشين عصر جديد ، فالنحلة التي تم كشفها في حجر الكهرمان هي من نوع (PROPLEBBIA  DOMINICANA ) وتم عزل جراثيم من نوع (bacillus  sphaericus ) في داخل أمعائها . استطاعت هذه الجراثيم مقاومة الظروف الرهيبة عبر ملايين السنين فتخلصت من الماء وتحولت الى قطعة بروتين جافة ، ثم طوقت نفسها بغلاف سميك مقاوم غير قابل للاختراق . وعندما تأملها كانو لم يكد يصدق عينيه أن هذه الباكتريا يمكن أن ترقد قابعةً في كهفها الكهرماني كل هذه القرون الخاوية (3) وقام باختبارجريء عليها فقدم لها الحلوى المناسبة للنمو ، فاذا بالباكتريا تدب وتتحرك من جديد وتنشط للحياة بعد كل هذه الملايين من السنين من السبات الرهيب ، وزيادة في الاحتياط قام بدراسة التركيب الجيني لهذه الباكتريا ، فوجد أنها مكونة من نفس العدد من الجينات وهو 1500 جين ، وهو نفس الرقم الذي تحمله الجراثيم من نفس النوع والموجودة في الطبيعة حتى اليوم ، والفرق هو أن تلك الباكتريا التي تم عزلها كانت تعيش قبل أربعين مليون سنة وأن أخواتها تعيش اليوم ؟! 

   في الواقع إن هذه القصة تفتح الطريق أمام أفكار عجيبة ، فاذا عاشت هذه الجراثيم كل هذه الفترة فيمكن أن نصل من خلالها الى عدة أمور في غاية الحيوية : منها المزيد من معرفة طبيعة الكون في تلك الأيام ( عرف مثلاً أن الغلاف الجوي وقت الديناصورات كان مشبعا بالاكسجين أكثر ) ومنها الوصول الى صادات حيوية أكثر فتكا بالفيروسات والباكتريا ، كونها تفتك بدون وجود مقاومة لها ، ومنها ماهو أخطر وهي فكرة فيلم جوراسيك بارك : هل يمكن عزل حامض نووي لكائن قديم ، ثم زرعه في بيضة لكائن مشابه فيخرج للحياة من جديد حتى لو كان ديناصوراً ؟؟!  ولكن الحياة علمتنا أنها تمشي بشكل تقدمي ، فهي طوت الكائنات السابقة وانتجت ماهو أفضل ، فإعادة نبش ملفات العهد القديم لن يكون بدون مخاطر أيضاً ، فاتركوا الماضي للماضي كما يقول سفانتي بيبو . كما أن فكرة الجوراسيك بارك يقف في وجهها عائقان رئيسييان : أولاً : المادة الوراثية التي تعزل عادة غير كاملة ، أي هي أجزاء ممزقة من الحامض النووي برمته ، أي هي بقايا كلمات متناثرة وحروف مقطعة من نص كبير ( بقايا كتاب مهتريء قد عف عليه الزمن ، بالي ممزق الصفحات مأكول الأوراق  ) والأمر الثاني هو أن زرع  مركب جيني في مركب جيني آخر لايعني بالضرورة ظهور الكائن الأول ونسخ وحذف المزروع فيه ، فزرع الجين لايفعل مثل تطعيم النبات على النبات حيث ينمو الطعم الجديد مستفيدا من نسغ الأصل الذي ينمو عليه ، ولقد جرب العلماء تجارب رهيبة من هذا القبيل ، على الشكل الذي ساقه  صاحب كتاب ( التنبؤ العلمي )(4) عندما قام فريق علمي بزرع الجينات الانسانية مع جينات الفأر !! فكانت النتيجة أن الجينات الانسانية اضمحلت بسبب التكاثر السريع لجينات الفأر ، وافترست جينات الفأر جينات الانسان ولم يبق لها أثر ؟!  والعلماء يقومون بتجارب لاتخطر في بال أحد !! الا أن العلماء لايستسلمون بسهولة وهكذا فقد قاموا بتطويرين هامين الأول : هو جهاز ( مضاعفة نسخ الحامض النووي ) والثاني : تطوير جراحة الجينات . فأما الجهاز  P C R )) فقد اهتدى الى فكرته كاري مولليس ( KARY  MULLIS ) وهو يقوم بما يشبه نزهة الفيلسوف (5) حيث كان يقوم بجولة في سيارته مع زوجته فاهتدى الى الفكرة ، التي كوفيء عليها من شركته بعشرة آلاف دولار ، ولكن شركته باعت براءة الاختراع فيما بعد بــ ( 360 ) مليون دولار الى الشركة السويسرية هوفمان لاروش !! .  

   فكرة جهاز النسخ والمضاعفة ( الجيني _ PCR =  POLYMERASE  CHAIN  REACTION  ) :

   يعتبر هذا الجهاز اليوم في دوائر الأبحاث ماقبل التاريخية ( البالينتولوجية ) جهاز الكوبي ( التصوير  )  ولكن للجينات ، فبواسطة هذا الجهاز الذي يقوم على قاعدة في غاية البساطة ، تم دفع ثلاث علوم على الأقل الى الأمام : البحث في التطور البايولوجي ، وتصميم البروتينات ، والطب الشرعي ( كما هو الحال في القضية الشهيرة للاعب كرة القدم الأمريكي ج . و . سمبسون الذي اتُهم في قتل زوجته ) ، والفكرة التي تألقت تلك الليلة في ذهن كاري موليس وهو ينطلق مع زخم السيارة المندفعة كانت : يشبه الحامض النووي ( السحَّاب ) للثوب أو البنطال أي من طرفين متماثلين تماماً ، وكما يوجد في السحَّاب تلك القطعة التي تلم الطرفين وتبداً الغلق والفتح ، كذلك الحال مع طرفي الحامض النووي في نواة الخلية ، ويكفي أن نرفع الحرارة الى مادون درجة الغليان ( 92 ) كي ينفك عمودا الحامض النووي عن بعضهما بعضاً ، فاذا هبطت الحرارة الى ( 62 ) وبواسطة الخميرة الخاصة التي تشبه القطعة التي تلحم طرفي السحاب أمكن مضاعفة الطرفين ، أو ايجاد طرف المرآة المقابل ، فاذا ارتفعت الحرارة من جديد الى 92 انفك وهكذا مابين الرفع والتبريد يحصل الانفكاك ومضاعفة الحامض النووي . وهذا يعني أن قطعة بسيطة ولو كانت خلية واحدة أو قطعة من شعر أو بقايا خثرة دم أو لطخة سائل منوي ، أياً من كل هذه البقايا يكفي ادخالها الى هذا الصندوق السحري ، لكي نحصل على مضاعفة النسخ الى المليارات فيما لو أردنا ، وهذا الذي برأَّ ساحة ( سمبسون ) لانه لم يعثر على أي اثر لبقايا ( جيناته ) في مكان الجريمة ، وهذا يقودنا الى بحث في غاية الأهمية في علم الجريمة وهو تفرد شخصية الانسان ، فكما اعتمد الطب الشرعي سابقاً على البصمات الفردية ، فان هذا التطور الجديد في تقنية كشف الجريمة شق الطريق الى علم ( البصمة الجينية ) . 

  بصمة الأصابع والبصمة الجينية وتفرد شخصية الانسان :

يمتاز وجود الانسان بالتفرد الخاص سواء بصمة الأصابع أو بصمة الصوت أو حتى الرائحة ، فضلا ً عن الكشف الجديد الهام أعني البصمة الجينية ، ويعود اعتماد البصمات كشاهد يقيني على مرتكبي الجرائم الى نهاية القرن التاسع عشر ، ففي عام 1788 أعلن الألماني ( ج . س . ماير ) أن ترتيب الخطوط البارزة في الكفين والقدمين لايمكن أن تتطابقا عند شخصين على الاطلاق ؟!! وأن هذه البروزات تبقى ثابتة مدى الحياة ، وقام بتجربة على نفسه دامت 41 عاما حيث أخذ انطباعات يده بين الفترتين المذكورتين ، ولاحظ ثبات هذه العلامات بدون تغير يذكر ، وحصل نفس الشيء مع حاكم البنغال ( هرتشل ) في نهاية القرن التاسع عشر عندما قارن بصمات أصابعه بفارق يصل الى 55 سنة ، مما دفع العالم البريطاني ( غالتون ) الى دراسة هذه الظاهرة ليضع بعد ذلك كتابه الخالد ( بصمات الأصابع ) الذي يعتبر مرجعا في هذا العلم ، وجعل الحكومة الارجنتينية بعد ذلك أن تكون الأولى التي تتبنى البصمات كأثر دامغ لهوية الانسان في عام 1891 م ، وتمتاز البصمة بأربع خواص رئيسية ( عراوي ودوامات ودوائر وتفرعات ) وتم التأكد أن احتمال أن تتطابق 12 ميزة من بصمة على أخرى هو احتمال واحد من 64 مليار (6) وهذا يعني بكلمة ثانية استحالة أن تتطابق بصمة انسان على آخر (7) . أما جهاز مضاعفة الحامض النووي ( P C R) فقد حقق اختراقا نوعيا في الكشف المباشر عن أي أثر جيني مهما كان تافها ، ومن تطبيقاته الكشف عن مرض ( الايدز ) الرهيب الجديد ، فالطريقة القديمة كانت تقوم على اكتشاف ( مضادات الأجسام ) وهي تلك الأجسام التي يكونها الجسم بعد تعرضه للمرض في مدى أشهر من الأصابة ، في حين أن هذا الجهاز يقوم بالتحري المباشر عن كتلة الحامض النووي التي يحويها الفيروس مباشرة . فيمكن بهذه الطريقة  الكشف عن المرض خلال لحظات من الأصابة به طالما دخل الفيروس البدن . ليس هذا فقط بل أثار ( سفانتي بيبو ) مرة أخرى ، وبواسطة هذا الجهاز وبحسابات رياضية دقيقة ضجة جديدة في دراسات ( البالنتيولوجيا ) أي علم تاريخ الانسان على وجه الأرض ، فالبحث حسب وجهة نظره يجب أن يتوجه ليس الى الحفريات في الأرض ومحاولة معرفة عمر الكائنات ؛ بل دراسة الجينات ( المتحجرة ) مباشرة ، ومن خلال ساعة بيولوجية عجيبة موضوعة فينا !! 

   الساعة البيولوجية المغروسة فينا ( الميتوكوندريا ) : 

لقد ساقت لنا الحفريات التي يقوم بها العالم الأمريكي ( تيم وايت )  معلومات جديدة أقدم من انسان لوسي ( LUCY  ) ففي وسط الحبشة في منطقة ( أواش ) اهتدى الى بقايا هيكل عظمي يعود الى ( 4.4 ) مليون سنة وهو أقدم من انسان لوسي ( الذي كشفه في ذلك الحين الانثروبولوجي الأمريكي دونالد جوهانسون _    DONALD  JOHANSON) بحوالي مليون سنة اضافية ، ولكن ( بيبو ) يرى أن البحث مجدي أكثر فيما لو دخلنا الى عالم الجينات مباشرة جنبا الى جنب مع عالم المستحاثات ، فلا يستطيع علم أن يدعي لنفسه أنه يحيط بالحقيقة النهائية ، بل ان البحث المجدي هو تضافر مجموعة من العلوم . لذلك اقترح دراسة جينية ورسم خريطة للقرابات بين السلالات الانسانية ، وللوصول الى يقين في ذلك قام هو وزميله ( آلان ويلسون _ALLAN  WILSON ) بدراسة كل العروق الانسانية ( وهي 38 ) ودراسة التركيب الجيني فيها ، وعرف أن الحامض النووي يمتاز بثبات نسبي عبر الأحقاب الجيولوجية فلايتعرض لتغير الا ببطء شديد ، خلافآ  لــ ( الميتوكوندريا ) المرتبطة فيه فهي أكثر تغيرا بعشر مرات ، ومعنى هذا أن علينا حساب هذا التغير ووضع قانون لذلك ، وماعداها يبقى سهلاً ، فيكفي الكشف عن الميتوكوندريا في أي كائن لنعرف رحلته التطورية بعد ذلك ، والزمن الجيولوجي الذي عاش فيه ، ومن هذه الدراسة الممتعة وصل العالمان الى نتيجة مفادها أن أصل الجنس البشري يعود الى أفريقيا ، وهذا مايفسر حماس البحث وكثرة الكشوفات الانثروبولوجية في اثيوبيا التي تعتبر أغنى بلد في العالم في علم الحفريات للكشف عن بدايات الفجر الانساني ، بالاضافة الى طبيعة المناخ الحافظة التي تجمع بين الحرارة والجفاف مما يجعلها تحمي بقايا الهياكل العظمية ، كما وصلا الى ان الانسان العاقل العاقل ( HOMO  SAPIENS  SAPIENS  ) أصبح له يدب على وجه الأرض فقط ( 270 ) ألف سنة وليس مليون سنة كما يذهب الى ذلك علماء البالنتيولوجيا . بقي أن نسوق في النهاية خبراً  مثيراً جديداً عن كشف العلماء المهتمون بـ ( جينات الكهرمان ) عن العثور على حشرة جديدة من نوع ( الخنفساء ) محفوظة في حجر الكهرمان منذ ( 135 ) مليون سنة ، أي أننا وصلنا بذلك الى العصر الذي كان تدب فيه الديناصورات على وجه البسيطة بدروعها الرهيبة واسنانها القاضمة المرعبة وأدمغتها السخيفة ، ويبقى البحث قائما عن البعوض الذي لدغ الديناصور وشرب من دمه ، ثم حفظ في حجر الكهرمان ومعه جينات الديناصور فلم تنته القصة بعد كما نرى ؟؟1!!

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 هوامش ومراجع :

    (1) عرض فيلم جوراسيك بارك للمرة الأولى في صيف عام 1993 م حيث تم فيه امكانية عزل الحامض النووي للديناصور من بقايا بعوضة حفظت في حجر الكهرمان كانت قد  امتصت من دم الديناصور قبل مايزيد عن 100 مليون سنة وبزرع الحامض النووي ( الديناصوري ) في بيضة تمساح أمكن بعث الديناصور الهائل للحياة من جديد ، والمثير في الفيلم هو خدعة الكمبيوتر التي استطاعت عرض الديناصور وكأنه يدب بين الناس (2) يراجع في هذا البحث الكامل الذي نشرته مجلة ( PETER MOOSLEITNERS ) الألمانية العلمية التي أشارت الى هذا الموضوع مرتين الأولى حين ظهر فيلم جوراسيك بارك في عددها السابع شهر يوليو تموز عام 1993م والبحث الجديد الذي دشنه العالم الأمريكي راول كانو في عددها الثامن عام 1995م بالكشف عن النحلة التي حجزت في حجر الكهرمان لمدة أربعين مليون سنة وتم عزل باكتريا من الأمعاء فيها ، عادت الى الحياة بعد تغذية استمرت اسبوعين فقط (3) مع هذا فالنموذج الذي بين أيدينا يقرب الى فهمنا أيضا قصة أصحاب الكهف الذين لبثوا في كهفهم مايزيد عن ثلاثة قرون ، حيث يكشف القرآن عن حفظهم بطرق بيولوجية وكونية من التقليب والحفظ من ضوء الشمس _ تراجع سورة الكهف ( ونقلبهم ذات اليمين وذات الشمال ... ) وعن الشمس ( وترى الشمس اذا طلعت تزاور عن كهفهم ذات اليمين واذا غربت تقرضهم ذات الشمال  )(4) يراجع كتاب التنبؤ العلمي ومستقبل الانسان سلسلة عالم المعرفة عدد 48 تأليف د. عبد المحسن صالح ص 104 ( وفي عام 1967 م ظهر نبأ غريب اذ توصلت د. ماري فايس و د . هوارد جرين من جامعة نييورك الى ادماج خلايا الانسان بخلايا فئران ) (5) كان الفيلسوف كانت يقوم كل يوم بنزهة معروفة في غاية الدقة زمانا ومكانا حتى لتكاد تحصى مواقع أقدامه وكان الناس في كونيجسبرغ يربطون ساعاتهم على نزهة الفيلسوف ( ايمانويل كانت ) لشعورهم بأنه لن يغيب عنها مطلقاً (6) علم البصمات _ العقيد ابراهيم غازي _ قسم الشرطة الجنائية دمشق (7) ربما كانت الآية القرآنية تشير من بعيد الى هذا الاحتمال بأن بعث الانسان سيتم بما فيها بصمته الخاصة به ( بلى قادرين على أن نسوي بنانه ) والله أعلم.