اختطاف الثورات - 2
اختطاف الثورات - 2
الثورة الشعبية في سورية عصّية على الاختطاف
نبيل شبيب
في الفقرات التالية.. حديث هادئ رغم أنّ مسار الثورة الشعبية في سورية حافل بما يثير الألم والغضب، إنّما هي أفكار تطرح بنظرة تحليلية موضوعية هادئة مقدّماتٍ ضرورية للوصول إلى النتيجة في خاتمة المقال: الثورة الشعبية في سورية عصيّة على الاختطاف؛ فمعذرة للثوار في الوطن السوري العزيز، وهم أحبّ أهل الدنيا هذه الأيام لكاتب هذه السطور.
من السذاجة السياسية بمكان أن يتوقع أحدٌ عدم بذل جهود دولية وإقليمية ومحلية لاختطاف ثورات الربيع العربي، وسبق أن ظهر تاريخيا أنّ ثورات التحرير من الاستعمار العسكري تعرّضت للاختطاف عموما، والمقصود من الكلمة أن يبذل الفريق الأكبر من الشعب ما يبذل من دماء وتضحيات ليصبح هو صاحب الإرادة والقرار في وطنه، ثمّ تتحوّل صناعة القرار إلى أيدي فريق لم يشارك أو شارك بنسبة محدودة في الثورة نفسها، وما كان فيها من عطاء وتضحيات وبطولات. وبطبيعة الحال لا يستطيع ذاك الفريق المتطفّل على التاريخ أن يستولي على مقاليد صناعة القرار ببساطة متجاوزا القوّة الشعبية التي صنعت الثورة، والغالبية العظمى التي تحملها على عاتقها، وروتها بدمائها ودموعها، ولكنّه يتلقّى الدعم من كلّ طرف، إقليمي أو دولي، ممّن لا يريد لإرادة الشعوب أن تتحرّر.. فتحرّرها هو مصدر صناعة الإنسان والحضارة والتاريخ، وهو -لذلك- سبب قلق وانزعاج ومبعث الجهود المضادّة عند من يهيمنون على الإنسان والحضارة ويستغلّون الواقع دون وجه حق.
هل يمكن أن يتكرّر في الموجة الثانية من ثورات تحرير الإنسان والأوطان، موجة الربيع العربي، ما وقع بعد ثورات التحرير من الاستعمار الأجنبي؟..
يمكن بطبيعة الحال.. فمسار التاريخ يخضع لسنن وقواعد ثابتة، ولكن إن كرّر نفسه -كما يقال- لا يأتي ذلك بصورة مماثلة، متطابقة مع صورة سبقت، بل يخضع التكرار لمعطيات اللحظة الآنية، وفي معطيات ثورات الربيع العربي ما يمكن اعتباره عناصر تصبّ حصيلتها في مسار اختطاف الثورات، وما يمكن اعتباره أيضا عقبات كبرى في وجه هذا المسار، ولا بدّ من رؤية هذا وذاك معا، ليس للتنبؤ المسبق بالحصيلة، بل للعمل الهادف المتواصل والمضاعف، من أجل أن تكون حصيلة الانتصارات هي تحرير الإرادة الشعبية، فهذا محور تحرير الإنسان والأوطان على السواء.
. . .
كان من أبرز علامات حقبة الاستبداد بعد حقبة الاستعمار ما يمكن وصفه باغتيال المعرفة والوعي لا سيما على الصعيد السياسي، أو "غسيل الدماغ" جماعيا لابتداع مقولات لا أصل لها، ووضعها في موضع بدهيات لا تُطرح على بساط البحث والنقاش، وإن صنع ذلك أحد تصدّت له الأقلام الخادمة للاستبداد بحملة "تسفيه" لا حجّة فيها، ومن هذه المقولات على سبيل المثال دون الحصر:
- لا يمكن صناعة شيء في بلادنا إلا وفق الإرادة الأمريكية والصهيونية.. والحصيلة: الاستسلام!
- من الواقعية القبول بما يُفرض من واقع دولي ظالم علينا.. والحصيلة: التراجع مع كل "واقع" يصنعه سوانا!
- لا نستطيع انتهاك الشرعية الدولية، وليس المقصود المواثيق والمبادئ الثابتة، بل قرارات موازين القوى المهيمنة في مجلس الأمن الدولي وعالميا، والحصيلة تغليب شرعة الغاب على الشرعية الدولية!
- انتهى عصر "الإيديولوجيات"، أي "التصوّرات العقائدية، والمقصود في بلادنا: لا مكان للإسلام تحديدا، عقيدة ولا نهجا حضاريا، مقابل الأخذ بتصوّرات أخرى -كالعلمانية- بأسلوب "التسليم المطلق" الذي تُتّهم به عقيدة الوحي الربّاني!
- لا فائدة من العواطف والحماسة، والحصيلة: اغتيال بواعث التضامن بين الشعوب في مواجهة المآسي والمذابح والظلم، ويمكن القول إن الوضع الراهن في فتور التحرّك الشعبي الواسع النطاق في بلدان إسلامية شقيقة وبلدان العالم شاهد مباشر على ذلك إلى حدّ بعيد!
ويمكن تعداد المزيد، وسنجد النتيجة فيما انتشر تداوله على أوسع نطاق في السنوات القليلة الماضية، من مثل (موات الشعوب) (موات العروبة) (ضياع الشبيبة) ووصل الأمر إلى اعتبار الاستبداد أبديا، واعتبار الإنسان في منطقتنا الحضارية متخلّفا نتيجة "عوامل وراثية" عاجزا عجزا مطلقا عن صنع شيء ذي قيمة!.
ثورات الربيع العربي قضت على هذه المقولات وأمثالها، وأثبتت بطلانها، ورغم ذلك لا يزال يوجد -بين ظهرانينا- من ينطلق منها في العمل بنفسه أو لحساب غيره على اختطاف الثورات.
. . .
المفكرون والسياسيون من القوى الدولية (والإقليمية) لا يجهلون أنّ هذه المقولات اصطُنعت اصطناعا خلال العقود الماضية، وأصبحت "منهجا" متبعا يعتمد عليه حلف الاستبداد المحلي والهيمنة الدولية. ولا ينفي ذلك وجود تأثير لها على مستوى مسار الثورات -ومن بينها الثورة الشعبية في سورية في الوقت الحاضر، موضع الحديث هنا- وهو ما يكشف عن وجود ما سبق التنويه إليه من عقبات كبرى في وجه اختطاف الثورات، إلى جانب العناصر المساعدة على تحقيق ذلك الهدف والحيلولة دون تحرير الإنسان وبالتالي تحرير الإرادة الشعبية والأوطان.
1- قد لا نجد في ثورة شعب سورية وعيا شعبيا واسع النطاق قائما على العلم والمعرفة والخبرة المكتسبة، بعد أن حُرم الشعب من مصادر "اكتساب" ذلك كلّه لجيلين متواليين.. ولكن نجد ما يمكن وصفه بالوعي الفطري، الذي يجعل الشعب الثائر يقبل أو يرفض وإن لم يقدّم على الدوام التعليل "المنطقي!" للقبول والرفض.
2- نفتقد توازن أسباب القوة المادية بين قوى الثورة الشعبية من جهة وبين النظام الاستبدادي المدعوم دعما كبيرا ومتواصلا حتى الآن من جهة أخرى.. ولكن لا نفتقد القدرة على توظيف الإمكانات المادية القليلة لتحقيق النصر، وهو ما ساهم في الوصول بالثورة إلى مرحلة "حتمية الانتصار" وأوصل بقايا النظام المتهالك إلى مرحلة "حتمية الانهيار".
3- لم يصل مستوى الدعم الخارجي على صعيد الإغاثة الإنسانية -وليس على صعيد الدعم بالسلاح فقط- إلى مستوى ما تصنعه الثورة الشعبية على الأرض، وذلك في أيّ مرحلة من مراحلها عبر 19 شهرا مضت حتى ساعة كتابة هذه السطور، ولكن نعلم أنّ الثورة صنعت الإنسان السوري من جديد، فظهر من الجهود الجبّارة خارج الحدود وداخل الحدود للتعويض عن "موات الوجدان الإغاثي الخارجي" ما مكّن الثورة من الاستمرار والشعب من الصمود على طريق تضحيات جسيمة ومعاناة متواصلة لا يكاد يمكن تصوّرها فيما يسمّى "القرن الميلادي الحادي والعشرين"!..
4- مضى -حتى الآن- تسعة عشر شهرا ولم يتمكّن معظم من يوصفون بالمعارضة السياسية التقليدية، من القفز فوق واقعهم، والتعلّم من الثورة والثوار، والتخلّي عن الأساليب التقليدية من "عصر ما قبل الثورة"، وإبداع الوسائل مثلما تبدع الثورة من الوسائل والأساليب للعمل رغم العوائق، ولكن نجد بالمقابل أنّ افتقاد "رؤوس قيادية سياسية" لم يمنع الثورة من الاستمرار وبناء قلعة الانتصار لبنة لبنة، فضلا عن ظهور قيادات ميدانية محلية لا شك أنّها ستسفر أيضا عن ظهور قيادات سياسية بكفاءات عالية.
ولا داعي للإطالة بذكر المزيد من الأمثلة.
. . .
لقد بدأت جهود اختطاف الثورات دوليا وإقليميا في اللحظة التي أدركت فيها القوى المهيمنة أن ثورة تونس ليست مجرّد :"اضطرابات اجتماعية محدودة" بل شعلة ثورة تاريخية جذرية وشاملة، ولم تبلغ تلك الجهود مداها سريعا، فسبقها سقوط "رأس" الاستبداد في تونس ومصر، وهناك استمرت وما تزال متواصلة، لأن الاستبداد كالأخطبوط، موجود بأذرعه في كل مكان، ولا بدّ من استئصالها مع استئصال رأسه، ويسري شبيه ذلك على ليبيا، ولكن لا يسري على اليمن، حيث أوصلت الجهود المضادّة بالفعل إلى نكسة في مسار الثورة، ويرجى للقوى الثورية أن تتجاوزها، أمّا في سورية فقد بدأت جهود اختطاف الثورة من اللحظة الأولى لاندلاعها، ولا تزال مستمرة بكثافة حتى هذه اللحظة.
يريد الشعب الثائر تحرير إرادته ووطنه وصناعة قراره وواقعه ومستقبله بنفسه.. ولئن كان الاستبداد الهمجي القمعي يعمل على الحيلولة دون ذلك بمحاولة تدمير الوطن وقهر الإنسان، فإن قوى اختطاف الثورة تعطي لجهودها عناوين تقليدية: "حلّ الأزمة"، "حقن الدماء"، "وساطة دولية"، "مبعوثون"، "قوى صديقة"، "مفاوضات لا نهائية"، وسط سيل من إدانات كلامية، وقرارات ورقية، ووعود ترث وعودا سابقة دون أن تسفر عن أكثر من أوهام وسراب.
يريد الشعب الثائر تحرير إرادته ووطنه وصناعة قراره وواقعه ومستقبله بنفسه.. وصار مستحيلا أن ينجح النظام الساقط في تجنّب السقوط المريع الشامل، ولم تيأس قوى الهيمنة بعدُ من العمل من أجل ألاّ يؤدّي السقوط المحتم إلى تحرير ناجز، ولهذا لا ينقطع طرح أسماء مشبوهة، من "بنية" ذلك النظام، ليكون لها موقع ما في المستقبل المنظور، ودور ما في صناعة ما بعد "الانتصار الأوّل"، وهي أسماء عسكريين وسياسيين، لا يمكن استثناء أيّ منهم أنّه كان جزءا من الكتلة البنيوية النظام، وهنا انتشر تداول تعبير: "لم تلطّخ يداه بالدماء"، أو يتلوّث لسانه بأوامر سفك الدماء، وكأنّ العون السياسي بمجرّد الانتساب لهياكل الاستبداد، أو السكوت أثناء اتخاذ القرارات، لا يجرّد هؤلاء من صلاحية أن يكونوا "جزءا من الحلّ"، أو كأن الثورة "مشكلة" تحتاج إلى حلّ "سياسي توافقي" أصلا، وليست حدثا تاريخيا يفرض ما بعده فرضا.
. . .
ثورة شعب سورية فريدة من نوعها تاريخيا، وستكون نتائجها فريدة من نوعها على أرض الواقع وفي المستقبل المنظور.
ثورة شعب سورية اتخذت مسارا يصفه المتألّم من أعماق القلب بمسار المعاناة غير المسبوقة تاريخيا، ويمكن أن يصفه لسان المنطق السياسي والتاريخي بأنّه مسار يستحيل أن يسفر عن نجاح جهود اختطاف الثورة، أي عن عدم الوصول بالإنسان والوطن في سورية إلى تحرير كامل ناجز يجعل الإرادة الشعبية محور صناعة الواقع والمستقبل.
ثورة شعب سورية ثورة عصيّة على الاحتواء، وعصيّة على الاختطاف، وعصيّة على الانحراف، بإذن الله.
تلك هي "المعضلة" الأكبر التي يواجهها من يتقلّبون بين مقولات الدعم من أجل "إسقاط الاستبداد" والامتناع عن دعم تحرير إرادة الشعب الثائر.. دون شروط، ويواجهها أيضا من يتشبّثون بأساليب سياسية تقليدية من "عصر ما قبل الثورة" في التعامل مع ثورة شعبهم من جهة، ومع القوى الإقليمية والدولية التي لا يستطيعون الفكاك عنها من جهة أخرى.
ولا يواجه هذه المعضلة الثائر الذي يرى الباطل فيرفضه، بوعيه الفطري، وتجربة ثورته التاريخية، وإن اتّهمه "الواقعيون" بأنّه "غير واقعي".. بينما أصبح هو الذي يصنع الواقع ويدفع الثمن من دونهم. وسينتصر الإنسان السوري الثائر، فقد دفع مع الشعب ثمن الانتصار من دماء شهدائه وجرحاه ومعاناة ذويهم والمعتقلين والمشردين.
ويجب أن يدرك القاصي والداني، أنّ هذا الشعب الثائر المنتصر هو الذي يحتضن الثورة في قلب الوطن، ولن يحتضن من لا يحتضن الثورة، أيا كان موقعه، داخل الحدود وخارج الحدود، في قلب العمل الثوري أو في أروقة العمل السياسي على السواء.