استحقاقات الدولة على عهد النبي صلى الله عليه وسلم!!
استحقاقات الدولة على عهد النبي
صلى الله عليه وسلم!!
علاء سعد حسن حميده
باحث مصري مقيم بالسعودية
من نافلة القول أن النبي صلى الله عليه وسلم أقام دولة مدنية على طراز وأسس وقواعد لم تكن معروفة في زمانه، فأسس للدستور ( وثيقة المدينة ) .. ووضع مؤسسات الدولة وفعل العمل بالشورى، وأنشأ الجيش ، واهتم بالاقتصاد ومعالجة مشكلة الفقر والبطالة والعمل، والتكافل الاجتماعي ، وكان اعظم ما طبقه النبي صلى الله عليه وسلم هو نزع فكرة القداسة عن البشر ولو كان حاكما ولو كان شخص رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاوحى إليه ربه قائلا ( قل انما أنا بشر مثلكم يوحى إلي ) ، وأمر بذلك النبي أصحابه وأمته فقال : لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى بن مريم فإنما أنا عبد الله ورسوله"[1].. وهكذا لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم مبلغا عن ربه وفقط وإنما كان اول مؤسس للدولة اﻹسلامية وهو القائد الأول والحاكم ورجل الدولة بكل المقاييس التاريخية والعصرية كذلك!![2]
ومن عظمة ما قام به الرسول القائد الحاكم رجل الدولة أنه عمل تماما على تفعيل استحقاقات الدولة في المواقف المختلفة واضعا الخطوط الحمراء بين العاطفة الجياشة والحماسة الملتهبة والشجاعة الغلابة والتضحية اﻵسرة وبين عهود الدولة ومواثيقها ودورها في رعاية السلم واﻷمن وحماية رعاياها والمستأمنين فيها..
الموائمة بين الشكل والمضمون اعلاء لمصلحة الدولة:
ففي وقائع صلح الحديبية عندما أراد النبي صلى الله عليه وسلم كتابة العهد ورد : "ثم دعا النبي صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب وقال له اكتب: بسم الله الرحمن الرحيم. فقال سهيل: لا أعرف هذا، ولكن اكتب: باسمك اللهم. فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: اكتب باسمك اللهم. فكتبها، ثم قال: اكتب: هذا ما صالح عليه محمد رسول الله سهيل بن عمرو. فقال سهيل : لو شهدت أنك رسول الله لم أقاتلك، ولكن اكتب اسمك واسم أبيك. فقال صلى الله عليه وسلم: اكتب. هذا ما صالح عليه محمدُ بن عبدالله، سهيلَ بن عمرو. فرفض على أن يمحو كلمة رسول الله بعد ما كتبها، فمحاها الرسول صلى الله عليه وسلم بنفسه. _[متفق عليه].
احترام الميثاق يوم الحديبية:
وبعد الانتهاء من كتابة وثيقة الصلح والمعاهدة جاء أبو جندل بن سهيل بن عمرو ـ رضي
الله عنه ـ وهو في
قيوده هارباً من المشركين في مكة ، فقام إليه أبوه ـ سهيل ـ فضربه في وجهه وقال
:
هذا يا محمد أول من أقاضيك عليه أن ترده إليَّ ، فأعاده النبي ـ صلى الله عليه وسلم
ـ للمشركين ، فقال أبو جندل
:
يا معشر المسلمين أَأُرَد إلى المشركين يفتنونني في ديني؟!
، فقال له النبي ـ صلى الله عليه وسلم:
(
إنا عقدنا بيننا وبين القوم عهدا ، وإنا لا نغدر بهم( ..
ثم طمأنه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قائلا: (
يا أبا جندل اصبر واحتسب ، فإن الله جاعل لك ولمن معك فرجاً ومخرجا
)[3]
فالرسول قد حكَّم العقل، وقال: لا نستطيع بأي حال من الأحوال أن ننقض المصالحة الآن، وذكر قاعدة مهمة من قواعد المسلمين وهي الوفاء بالعهد، حتى وإن كانت هناك تداعيات سلبية بعد ذلك؛ لأن المسلمين عند عهودهم.[4]
الاستحقاق الثالث موقفه صلى الله عليه وسلم مع أبي بصير:
ويروي عروة بن الزبير ـ رضي الله عنه ـ قصة أبي بصير ـ رضي الله عنه في حديث الحديبية الطويل فيقول
:
ثم رجع النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى المدينة فجاء أبو بصير
-
رجل من قريش
-
وهو مسلم ، فأرسلوا في طلبه رجلين ، فقالوا
:
العهد الذي جعلت لنا ؟ ، فدفعه إلى الرجلين
..
فخرجا به حتى بلغا ذا الحليفة فنزلوا يأكلون من تمر لهم ، فقال أبو بصير لأحد
الرجلين
:
والله إني لأرى سيفك هذا يا فلان جيدا فاستله الآخر ، فقال
:
أجل والله إنه لجيد ، لقد جربت به ثم جربت به ثم جربت ، فقال أبو بصير
:
أرني أنظر إليه ، فأمكنه منه فضربه حتى برد ، وفر الآخر حتى أتى المدينة فدخل
المسجد يعدو ، فقال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ حين رآه
:
لقد رأى هذا ذعرا ، فلما انتهى إلى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال
:
قتل
-
والله ـ صاحبي وإني لمقتول
..
فجاء أبو بصير فقال
:
يا نبي الله ، قد أوفى الله ذمتك ، قد رددتني إليهم ثم أنجاني الله منهم ، قال
النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ
: ( ويل
أمه مسعر حرب لو كان له أحد
)،
فلما سمع ذلك عرف أنه سيرده إليهم ، فخرج حتى أتى سيف البحر
..قال
:
وينفلت منهم أبو جندل بن سهيل فلحق بأبي بصير ، فجعل لا يخرج من قريش رجل قد أسلم
إلا لحق بأبي بصير ، حتى اجتمعت منهم عصابة ، فوالله ما يسمعون بِعِير خرجت لقريش
إلى الشام إلا اعترضوا لهم فقتلوهم وأخذوا أموالهم
..
فأرسلت قريش إلى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ تناشده الله والرحم لما أرسل فمن
أتاه فهو آمن
..
فأرسل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ إليهم
..
فأنزل الله ـ عز وجل ـ
: {
وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ
مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا
تَعْمَلُونَ بَصِيراً
}(الفتح:24) ..[5]
تأسيس لا تبرير ..
نحن لا نسوق هذه المواقف النبوية المبدئية في علم السياسة واحترام استحقاقات الدولة من باب التبرير لمواقف سياسية معاصرة تبدو ﻷول وهلة ضعيفة أو متخاذلة ، تجاه الاساءات المتكررة لمقدسات اﻹسلام أو تجاه شخص رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي نفتديه بأرواحنا واهلينا وأولادنا وكل ما نملك.. فليس التبرير منهجنا ، ولكن على العكس تماما فأنا ادعو لتأسيس لا تبرير ، بمعنى أننا نؤسس لمواقفنا وأفعالنا وردود أفعالنا قبل الاتيان بها على مدارسة السيرة النبوية ومدارسة مواقف رجل الدولة اﻷول ، لنبني مواقفنا اﻵنية والمستقبلية على ضوء من هذه الاستحقاقات!!
إننا بحاجة ماسة أن نعي استحقاقت الدولة ودورها ودور المؤسسات المحترمة فيها ، ونميز بين الحرية في ابداء الرأي بل وممارسة الضغوط الاجتماعية والسياسية من أجل تحقيق مطالبنا الشعبية المشروعة – وهو اﻷمر الذي تكفله وتضمنه النظريات الديمقراطية الحديثة – وبين الافتئات على سلطة مؤسسات الدولة ، وتقويض أركانها ، وتحويل الشعب إلى قبائل او طوائف أو جماعات تقوم كل طائفة بما يعن لها دون تقيد بمصالح الدولة والتزاماتها وتعهداتها ..
الغضب الشعبي الاسلامي من أي اساءة أو تطاول على مقدساتنا مشروع ومنطقي ومطلوب .. لكن توجيه طاقة الغضب في مكانها ووقتها هو مطلوب أيضا، أتفهم أن نقف وقفات احتجاجية سلمية وأن نؤدي صلوات جامعة امام سفارات الولايات المتحدة أو غيرها من الدول التي تصمت على الإساءة لمقدساتنا، دون الاعتداء على هذه المنشآت وتوريط الدولة في معارك غير محسوبة.. ووضعها بين نارين إما مواجهة شعبها أو نقض مواثيقها..
وأتفهم كذلك الاحتجاجات الشعبية على مؤسسات الدولة اذا تقاعست أو تخاذلت في التعبير عن حقوق شعوبها في حماية وصون المقدسات ، دون أن يؤدي ذلك بأي حال من الأحوال إلى معارك ومواجهات بين الشعب وبين مؤسسات دولته التي هي ملك له، ولا إلى أي نوع من الخسائر مهما كان حجمها..
ولا أتفهم في الوقت نفسه تقاعس المسؤولين والقيادات السياسية والحزبية والفكرية عن النزول االسريع إلى الغاضبين والمنفعلين لاحتواء غضبهم ، والارتكان إلى الحل اﻷمني من جديد .. مازلت أظن أن نزول القيادات المسؤولة والشعبية إلى المتظاهرين والحديث إليهم مباشرة وطمأنتهم إلى دور الدولة الذي سيلبي آفاق غضبهم في حدود استحقاقاتها كفيل بنزع كثير من التوتر والانفلات!!
نحن في حاجة ماسة إلى الاعتراف الشعبي بالدولة من جهة، وإلى حاجة أمس للمصالحة والتواصل السريع والفعال بين الدولة والشعب.. لنقف يدا واحدة ضد الإساءة والامتهان!!
[1] - اخرجه البخاري
[2] - كتاب دولة النبي لكاتب المقال
[3] - رواه الإمام احمد
[4] - موقع قصة الاسلام – المؤمنون وصلح الحديبية( د. راغب السرجاني(
[5] - اخرجه البخاري