لماذا ترجمت كليات رسائل النور؟

إحسان قاسم الصالحي

إحسان قاسم الصالحي

كليات رسائل النور التي ألّفها بديع الزمان سعيد النورسي تضم تسعة أجزاء سجل فيها الأستاذ النورسي كل ما استلهمه من نور القرآن الكريم من معاني الإيمان وأملاها على محبيه في ظروف عسيرة بقصد إنقاذ إيمان الناس في هذا العصر العصيب بإحياء معاني القرآن ومقاصده في النفوس والعقول والأرواح. فوضع بفضل الله تعالى بيد الجيل الجديد منهلا ثراً ونبعاً قرآنياً صافياً يحفظ عليهم دينهم وإيمانـهم ويطهر قلوبـهم وعقولهم مما قد علق بـها من الأباطيل. وقد وفقني المولى الكريم - على عجزي – إلى ترجمتها كاملة إلى اللغة العربية. وهي كالآتي:

(1)الكلمات .

(2)المكتوبات .

(3)اللمعات .

(4) الشعاعات .

(5) اشارات الاعجاز في مظان الايجاز(تحقيق).

(6) المثنوي العربي النوري ( تحقيق) .

(7) الملاحق في فقه دعوة النور .

(8) صيقل الاسلام ( ترجمة وتحقيق)

(9) سيرة ذاتية ( اعداد وترجمة)

ويرجع تاريخ قصتي مع رسائل النور إلى عام 1957، ففي العراق، كانت المرحلة تعج بالفكر الكسيح، كانت التقدمية تقترن بالإيمان بأن أصل الإنسان قرد، وأن المصير عدمي، وأن المخلوق من التراب ظهر وإلى التراب يؤول.. كانت الثقافة الإسلامية التقليدية تتلقى الضربات الموجعة، وكان الفهم المتوارث للآيات عاجزاً عن الثبات أمام المنطق الدهري، كانت ذخيرة الحرب وعدة المصاولة التي استخدمها الشيخ جمال الدين الأفغاني في رسالته (الرد على الدهريين) وما زاده عليها تلميذه الشيخ محمد عبده من تجويدات في (رسالة التوحيد) التي كتبها في مسعى منه لتثبيت القلوب قد فقدت ما كان يبدو لها من فاعلية في إفحام الملاحيد، كان مطلع القرن العشرين قد بدأ يشتط على الناس بمستحدثاته الميكانيكية والطبية والفكرية ويبلبل أرواحهم أكثر فأكثر فلم يعد في وسع كثير من مُسَلمات الماضي أن تصمد في وجه التحدي المادي. وما ظل المسلمون يتحاجَّون به من موضوعات الجبر والاختيار، قد أوجدت له الفرويدية تأويلاً حل في ضمير الأجيال محل الحقيقة المقدسة التي لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها.. وما استغرق الناس عهوداً طويلة من جدل في مسائل القضاء والقدر، جاءت الماركسية تختزل البديل عنه في قولها بالحتمية، حتمية اندحار قيم الماضي وترسُّخ قيم أخرى أساسها الجبرية التاريخية الواثقة من انتصار المستقبل على الماضي، ومن شيوع المِلْكيات، وتَحَطُّمِ البُنَى - وفي مقدمتها الدين والأسرة والعرض والملكية- التي ظل الإنسان القديم يعتد بها. متغيرات تدفع متغيرات، وحقائق مستمدة من الدين تنهزم أمام حقائق مستمدة من الافتراض الإنساني والخيال الحسي.. في ذلك الخضم كان الإسلام يتلقى ألواناً من النَّبْزِ والاستهتار بمبادئه على يد الخصوم وعلى يد طوائف من الأبناء العاقين ممن أصابهم جرثوم الإلحاد، لم يكن في وسع الغيورين إلا أن يتداعوا إلى الصمود، وهكذا وجدت نفسي أسير في ركاب أهل الإيمان. كانت خطب الدعاة تشدني لكنه كان بطبعي البرهاني أشعر بنقص ما في دعائم ما كان أسمع من خطب وما أقرأ من أفكار مؤمنة.

  

 وقعت في يدي إحداها عام 1957 ، قرأتها فإذا أنا انبهر ، لقد رأيت مضمونها يدك حصون الداروينية ، تلك النظرية التي كان المتعالمون يتعممون بها يومئذ، وفوراً قلت لا يكون صاحب هذا الفكر إلا عبقرياً، ولأول مرة لا يشهر الإيمان سيف الحماسة في منازلة الباطل ، ولكنه يعرض الحجة ويسوق الدليل. ولبثت منذئذ أتصيد ما يمكنني تصيده من فكر وأخبار هذا العبقري.

   وكنت يومها في وسط إسلامي يجمح به حماس التنظيم والأحلام المتأججة ، فلذلك لم أتمكن من فتح باب للنقاش يتوجه في الوجهة التي رسمتها تلك الرسالة.. مرت السنوات وتغيرت السياسات ولبست أكثر من ثوب ولون، وكنت أسافر للمصيف إلى تركيا في كل سنة تقريبا، فكنت أحرص على أن أتعرف على بعض طلبة النور، وتمكنت فعلا من أن أستهدي إلى مدارسهم وأن أقابل بعضاً منهم، كان أبرز ما يلفتني فيهم البساطة ، والتلقائية ، وربما حضرت درساً لهم فكنت استغرب إذ لا شيء كان يوحي بما كان يرتسم في ذهني عنهم ، إذ كنت أتوقع أن أرى شيئاً من مظاهر الترتيبات كالتي تلتزمها الجماعات والتنظيمات، فكنت عكس ما توقعت أراهم يقرأون نصوصاً من الرسائل مضمونها قرآني تمثله النورسي لها فكان ذلك يزيد من توقي أكثر إلى معرفة حقيقتهم..

 وفي عام 1975 زرت (ديار بكر)، فصادفت شاباً طبيباً نورياً كان علم بمقامي في النـزل فجاء يسأل عني، وكان أرسل زوجته إلى أهلي بالنـزل فترك لقاؤها مع الزوجة والأخت الكبيرة التي كانت بمثابة والدتي حسن الانطباع، قال فامتنعت رغم إلحاحه، وفي مناسبة أخرى دعاني مدير في سكة الحديد،  فلما قصدته في مقر عمله، أدار الهاتف وسمعته يخاطب أهله قائلا : عندنا ضيوف من الأهل.. فلما نـزلنا قدموا لنا طعاماً في منتهى البساطة، فزاد ذلك رغم تفاجئنا من الاقتناع بأن النوريين فصيل آخر لا يشابهه فصيل.

 وعدت تلك السنة محملاً بجميع الرسائل المكتوبة بالتركية، وشرعت أقرأوها، وأفهم محتواها، في البداية استعسر عليّ الأمر، ثم ما أن تمرست حتى صرت أجني النفائس، فكنت أهرع بما أفهم من أفكار ومعاني الرسائل إلى أصحابي، فكان فضولهم يزداد هم أيضاً فيزداد تحميسهم لي لأن أقرأ وأترجم لهم ليكوِّنوا صورة عن فلسفة هذه الرسائل. وهكذا رحت أغالب ضعفي في الترجمة، لكن الناتج الذي كان يحصل لي مع الأيام كان يقوي إيماني بأنني أضع يدي على منجم أصيل من الفكر والأخلاق والمعرفة الروحية.

وتعرفت في تالي الأعوام على تلاميذ النورسي الأولين، مصطفى صنغور ومحمد فرنجي ومحمد برنجي وآخرين، فعرفت في أخلاقهم ومصداقيتهم ما فتَّحت الرسائل عينيَّ عليه من الطهر والاستقامة والتمسك بأحكام القرآن والسنة.

هكذا كانت معرفتي بالنوريين.

 لقد رأيت هؤلاء الإخوة من خلال زياراتي المتكررة إلى تركيا لا يتقنون العربية، بل حتى قد لا يستطيعون قراءة القرآن الكريم قراءة متقنة، لكن تصرفاتهم العجيبة وحركاتهم النشيطة وإيمانهم القوي يجعل الإنسان يستغرب من أين يستمد هؤلاء هذه القوة، فلما علمت أنها من تأثير الرسائل التي لا يلبثون مفارقتها بل يعكفون على قرائتها في كل حين، سارعت إلى ترجمتها سنة 1979، لعل العالم الإسلامي أشد حاجة إليها في هذا العصر".

أقول عن نفسي والله شاهد على ما أقوله أنه :

لولا عنايته الكريمة ورعايته الشاملة لما كنت أجرأ على القيام بترجمة مؤلَّف بهذا العلو في الاسلوب والعمق في المعاني ، فأنى لي القدرة على القيام بها وأنا لم ازاول الترجمة من قبلُ ولا باع لي في الأدب ولا في اللغة .

ولكن العجز الذي كنت أشعر به في نفسي والضعف الذي كنت أحسه في قابليتي ، أصبحا شفيعين لدى الرحمة الالهية الواسعة التي التجأت اليها ، فما أن توجهت بفضل الله الى خدمة القرآن الكريم برسائل النور ، حتى هيأ المولى الكريم من كل جانب من يمدّ إليَّ يد العون ، مدّها اخوة افاضل جزاهم الله عنا خير الجزاء ، سواء بالتصحيح والتشذيب والإرشاد والتوجيه. فهذا يقوم بتبييض مسودات الترجمة وآخر يخرّج أحاديثها الشريفة، وآخر يأخذها الى مَن يُشار اليه بالبنان في الأدب او اللغة لينظر الى اسلوبها وسلاستها وآخر يصححها لغوياً .

وهكذا، إذا اراد الله شيئاً هيأ له أسبابه ، فظهرت الترجمة بفضله وكرمه ، ليست ترجمةً حرفية يُقصد بها الأمانة وحدها ولا ترجمةً حرة يُقصد بها الإبانة فحسب ، بل ترجمة أصيلة خالية من اللكنة الأعجمية وافية للمعنى ، حتى أثنى عليها الكثيرون ممن يشهد لهم باللغة والادب قائلين إنها: « ترجمة لا يحس معها الانسان بان شخصاً ثالثاً يقوم فعلاً بينك وبين النورسي ، وهو المترجم » .

وان الذي لمسته في أثناء الترجمة ،أن المترجِم مهما كان حاذقاً في فنّه ، ورصيناً في أسلوبه ، وثرياً في مخزونه اللغوي ، لا يقدر على إبلاغ المترجَم له إلاّ إذا تشربت روحُه وانشرح صدره وقلبه بالمعاني والافكار التي يقوم بترجمتها . إذ يؤثر هذا التشرب الروحي والانشراح القلبي في القارىء أكثر من تأثير الألفاظ الجميلة والجمل الرنانة .

وهكذا فالالتجاء الى قدرة الله بالعجز والضعف الانساني ، والتواصل الروحي والقلبي مع المترجَم ضرورة من ضرورات الترجمة . أما صياغة الألفاظ والمعاني فهي تأتي مسرعة بقدر ذلك الالتجاء والتواصل المعنوي .

والتزمت بنصيحة قدّمها لي احد الاخوة قائلاً :

إنك يا أخي تقوم بعمل جليل، وهو تفسير للقرآن العظيم يُعرَض على الله جل وعلا ، فلا تكتب شيئاً من دون وضوء. والتزمت بفضل الله بنصيحته طوال فترة الترجمة التي استغرقت إحدى عشرة سنة من السنين العجاف التي قضيناها في العراق ، تلك هي سني الحروب المتتالية.

وبمناسبة المقام اذكر :

عقب المحاضرة التي ألقيتها حول ترجمة رسائل النور في قاعة كلية الآداب في الدار البيضاء بالمغرب  (في فبراير سنة 1998 ) ، سألني أحد الطلبة:

"ما الذي دفعك للقيام بهذا المجهود الضخم بترجمة كليات رسائل النور في تسعة مجلدات من اللغة التركية إلى العربية ، فإن جميع المصادر الإسلامية هي باللغة العربية  و منها تُترجم إلى اللغات الأخرى، فما الذي دفعك بالسير المخالف هذا؟".

وكان جوابي جملة قصيرة:

أخلاق طلاب النور وسلوكهم الإسلامي. وكل من قرأ رسائل النور هو طالب نور، ولا أزكّي على الله أحداً.

نعم، عند لقائي طلاب النور في سنوات السبعينات من القرن المنصرم لمست الإسلام حياً نابضاً ومعيشاً في حلّهم وترحالهم، بل كشفتُ فيهم صفاء الإيمان ونقاء الوفاء وصدق الإخلاص ودوام العطاء، واستشعرت بالاطمئنان والسكينة تغمران قلوبهم. فكيف نالوا هذا القدر الوافر من السلوك القويم والإيمان العميق الذي ينعكس نوره حتى على ملامحهم ناهيك عن أعمالهم وحركاتهم، على الرغم من حرمانهم من اللغة العربية بل حتى من الحروف العربية، بعد ما فعل بهم الهدم والتخريب ما فعل ؟. لا شك أن السر يكمن في رسائل النور التي يقرأونها ويتدارسونها، ولا شيء غيرها.. فلقد حيل بينهم وبين مصادر الإسلام كافة بتغيير الحروف إلى اللاتينية، بل حيل بينهم وبين القرآن الكريم.. وغدت لهم هذه الرسائل المصدر والمرجع لاستلهام حقائق الإيمان. وبفضل الله سبحانه وتعالى  استطاعت هذه الرسائل بروحها القرآنية أن تأخذ بأيدي طلابها من الإيمان التقليدي إلى الإيمان التحقيقي والعروج بهم إلى معرفة الله سبحانه وتعالى.

وقد اثنى على الترجمة العربية بفضل الله وكرمه جمع غفير من العلماء والباحثين، اذكر منهم  :

(1) أ . د عبد المنعم أحمد يونس، أستاذ الأدب والنقد بكلية اللغة العربية - جامعة الأزهر، رئيس جمعية رابطة الأدب الإسلامي بالقاهرة، المؤتمر السابع للهيئة العامة لرابطة الأدب الإسلامي العالمية (القاهرة) في 13 - 15 رجب 1426/ 18 - 20 أغسطس 2005

«أحب أن أتوجه بكلمة إشادة أوجهها إلى المترجم العظيم إحسان قاسم الذي نقل إلى العربية تلك الرسائل في أسلوب رائع، وأدب بديع، لأن القارئ لهذه الرسائل لا يحس مطلقًا أنها كتبت بالتركية، ثم ترجمت إلى العربية، وإنما يوقن تمامًا أن روح كاتبها تدب فيها، وهذه قدرة فائقة في الترجمة لا يستطيعها إلا أولئك الذين كانوا ضالعين في كلتا اللغتين المترجم منها والمترجم إليها».

(2) الدكتور عماد الدين خليل في كتابه رؤية جمالية :

«ومنذ البدء، يلمس المرء تماماً، حضوراً مؤثراً للأخ الأستاذ (إحسان قاسم الصالحي) ليس كمترجم للنورسي فحسب، وإنما كأديب حساس، يملك تقنياته اللغوية، وخبرته المرنة اللتين يعرف بهما كيف يتجاوز موات النقل الحرفي أو النصي كما يفعل الكثيرون من أنصاف المترجمين، وكيف يجعل القارئ حاضراً تماماً في المناخ الأكثر مقاربة لمعطيات (النورسي) وبالتالي الأكثر إعانة للدارسين على التماس مع هذه المعطيات، خاصة إذا كانت المسألة تتعلق بمتابعة البعد الجمالي الذي لن يتأتى (تذوقه) إلاّ من خلال جهد ترجماني مبدع، كذلك الذي بذله (الصالحي) على مدى عشرين سنة .. ولا يزال».

(3) د. حسن الأمراني في كتابه: النورسي أديب الإنسانية، دار النيل للطباعة والنشر2005 :

«إن بديع الزمان صنف المثنوي بالعربية، مما يجعل البحث في شعرية النص وأدبيته أمراً مشروعاً، ولم يكن الأمر هيناً لو أراد المرء تلمس تلك الأدبية فيما هو مترجم من رسائله، مع الإقرار بالقدرة الفائقة للأستاذ إحسان قاسم الصالحي في الترجمة التي قد لا يحس معها الإنسان بأن شخصاً ثالثاً يقوم فعلا بينك وبين النورسي، وهو المترجم».

(4) عابدين رشيد ، كاتب وباحث اسلامي :

رأيي وتعليقي على صيقل الإسلام ( القسم المترجم) :

نظراً لروعة سبك عبارات الكتاب ولسهولة ووضوحه وحلاوته وبيانه أكاد اقول عنه :

«إنه تأليف وليس بترجمة » .