أنتم الراشدون ونحن الجاحدون

كاظم فنجان الحمامي

أنتم الراشدون ونحن الجاحدون

كاظم فنجان الحمامي

[email protected]

انصرفنا كليا في الليالي الرمضانية لمشاهدة الفضائيات العراقية, التي انفردت هذه المرة بتخصيص برامج مطولة للتحاور مع البرلمانيين والوزراء والسفراء والوجهاء والمدراء وأقطاب الكتل السياسية المتنافرة والمتضافرة, فوجدناها فرصة لا تتكرر في التعرف على النماذج المنتخبة من نخبنا السياسية والإدارية والتشريعية والقيادية والاقتصادية والتخطيطية والرياضية, فاكتشفنا انهم كلهم ومن دون استثناء يتحدثون بلهجة واحدة عن ارتباطاتهم الوطنية العميقة بجذور العراق, وعن عفتهم ونزاهتهم وسمو أخلاقهم, وترفعهم عن الموبقات والمعاصي, وتمسكهم بالصدق والأمانة والعدل والحياء, وغيرها من الصفات, التي لا تجدها إلا عند الأنبياء والأوصياء والأولياء وأصحاب الكرامات الربانية. .

في الليالي الأولى اختارت لنا الفضائيات مجموعة من السياسيين العراقيين, الذين لا مثيل لهم في الكون كله, بصدورهم الواسعة, وقلوبهم القانعة, فاكتشفنا انهم ليسوا من الكذابين ولا من السبابين, ولا من الغيابين, عزيزين الوقت, حليفين الصمت, لا متفاخرين, ولا متهتكين, ولا متكبرين, ضحكتهم تبسم, واستفهامهم تعلم, والتحاور معهم تفهم, لا يبخلون, ولا يعجلون, ولا يضجرون, ما أن تستمع إلى أحدهم حتى تحس انه خليص الود, وثيق العهد, لا يتجاوز على من يؤذيه, ولا يخوض في ما لا يعنيه. .

ثم ظهرت علينا فئة أخرى من المتحضرين الذين دأبوا على إعادة النظر في أي معلومة تأتيهم, حتى يتأكدوا من صحتها, فلا يقبلوا الأشياء على علاتها, ومن الصعب أن يضحك عليهم احد أو يحتال عليهم محتال, شغفوا بمعرفة تاريخ العراق وظروفه ومشاكله, يتأنون كثيرا في ردود أفعالهم, لا يقفون موقفا سلبيا من أي قضية تعرض عليهم, يسعون دائما إلى تغيير ما لا يعجبهم في حدود إمكانياتهم المتواضعة, ولا يكتفون بانتقاد المظاهر السلبية, يحبون العراق حبا جما, ويغارون عليه, ويذودون بالدفاع عن حقوقنا ليل نهار. .

يندر أن نجد مثل هذه الخصال في السويد وفنلندا والنرويج واليابان, ويندر أن نجدها حتى في المدينة الفاضلة التي حلم بها الفارابي, فشعرنا اننا نعيش في نعمة ما بعدها نعمة, وسعادة ما بعدها سعادة, فما الذي نريده بعد الآن من هذه النماذج الملائكية, التي هبطت علينا في الشهر الكريم. .

سمعنا احدهم يقول في برنامج سحور سياسي, انه لا يخشى على نفسه من العواقب إذا كان يدافع عن حق من حقوق العراقيين, وانه يجتهد كثيرا في عبادته, وبخاصة في صلاة الليل, فالعبادة عنده تسبق كل شيء, وانه يؤدي فروض الله حبا وطاعة, ورغبة في رحمته وغفرانه, حتى تعلق قلبه بالله, فلا يغفل عن مولاه طرفة عين, دائم الذكر لله في جميع أموره, وجميع أحواله, ولسنا مغالين إذا قلنا إن مثل هذا الحديث الإيماني لا نسمعه حتى في حوارات فيلم (الرسالة). .

لقد فتح هذا الرجل مغاليق قلبه على ذكر الله, حتى انتعشت روحه بذكر الله, فجند نفسه لخدمة الله, فلا يتجرأ على معصيته. .

ونقلت لنا الفضائيات العراقية الأخرى صور رائعة من صور المكارم الأخلاقية التي اتسم بها جماعتنا, فظهر علينا علم من أعلام الدهر في الحنكة السياسية, كان مؤمنا خاضعا متواضعا, سليم القلب, سلس الانقياد, زاهد في كل ما سوى الله, راغب في كل ما يقرب إلى الله, لا يفرح بموجود, ولا يأسف على مفقود, لا يعاتب, ولا يخاصم, ولا يطالب, كان فخورا متباهيا بنضاله السياسي الطويل من اجل الشعب العراقي المظلوم المحروم. .

كادت قلوبنا تنفطر من الحزن والألم, ونحن نشاهد هذه الكوكبة المؤمنة من أصحاب الأيادي البيضاء, الذين تركوا ملذات الدنيا كلها وراء ظهورهم من اجل أن يسهروا على راحتنا, ويوفروا لنا الأمن والأمان, ويوفروا لنا الحماية من بطش الإرهابيين, الذين ماانفكوا يطاردوننا في كل مكان, في البيت والمسجد والسوق والمدرسة. .

لقد فتحوا لنا أبواب بيوتهم المتواضعة المنتشرة في الأحياء الشعبية, وسخروا أوقاتهم كلها من أجل تأمين راحتنا وضمان مستقبل أبنائنا, وحاربوا الفساد والمفسدين حتى قضوا عليهم تماما, ولم يعد للمفسدين أي أثر, ومن المرجح أن تبادر منظمة الشفافية العالمية في القريب العاجل لتعديل موقفها من العراق, فتحذف اسمه من ذيل القائمة, وتضيفه إلى مجموعة الأقطار الاسكندينافية في العفة والنزاهة والعدل والإنسانية. .

شاهدنا في الليالي التي سبقت يوم العيد أحد المتحدثين وهو ينتقي الصور المشرقة من ذاكرته الحافلة بالمواقف الإنسانية النبيلة, فأسهب وأطنب بالحديث عن رعايته للفقراء والمساكين, واهتمامه باليتامى والأرامل, وتبرعه بموارده المالية لبناء المساكن لذوي الدخل المحدود. .

فتأكد لنا اننا شعب جاحد, لا يرى ولا يشعر ولا يحس بمعاناة هذه الفئة المؤمنة, التي ضحت من اجلنا, وكرست حياتها كلها من اجل سعادتنا ورفعتنا, وتعرضت للقهر والحرمان من اجل عزتنا وكرامتنا. .

نحن الآن نحلق في فضاءات العفة والنزاهة, ونهيم في جنائن الورع والتقوى, ونخشى أن تتدهور أحوالنا, وتسوء أمورنا بسبب جحودنا في التعامل مع طبقة النبلاء, وإلا بماذا تفسرون هذه المظاهر الخداعة, والاستعراضات الاستفزازية البليدة, التي عرضتها علينا الفضائيات العراقية, فنغصت بها أوقاتنا, وسرقت راحتنا في الشهر الكريم ؟, ثم قولوا لنا: من يضحك على من ؟, هل يضحكون علينا أم على أنفسهم, أم على العالم الخارجي الذي يقرأ التقارير, ويعلم إننا كنا نتقلب على رمضاء رمضان بسبب غياب العقرباء, التي صرفنا عليها عشرات المليارات منذ عام 2003 وحتى يومنا هذا من دون ان تتحسن, ومن دون أن نحس بالاستقرار والطمأنينة مثل بقية الشعوب والأقوام البشرية في كوكب الأرض. .

والله يستر من الجايات