بين الماضي والحاضر
د.أحمد محمد كنعان
في التاريخ البشري كثيراً ما نرى الماضي يحضر بقوة في الحاضر ، بل إن الموتى كثيراً ما نراهم حاضرين في الحاضر حتى وإن مضى على موتهم مئات السنين ، وقد لاحظنا أن هذه العلة تلازم التاريخ البشري في كل أمة ، وفي كل عصر ، فالبشر مولعون بالماضي إلى حد الهَوَس ، وهم يبدون ميلاً قوياً لاستحضاره في كل مناسبة وكأن الحاضر لا يكتمل إلا به ، مما يؤكد أن الماضي عند مختلف الأمم لا يفقد سطوته ونفوذه وجلاله وقدسيته ووقاره حتى وإن مضى عليه مئات السنين !
ويبدو لي أن البشر لا يستحضرون الماضي بهذه الصورة الملحَّة إلا لخدمة أغراضهم الحاضرة ، ولهذا نراهم يستعيرون من الماضي مقولاته وأفكاره وشخوصه ومواقفه ولغته ، بل كثيراً ما يستعيرون حتى أزياءه مبالغة منهم في محاكاة الماضي حتى في شكله ، لا في مضمونه فحسب !
حتى ليخيل إليك في كثير من الأحيان أن البشر مجرد ممثلين للماضي على خشبة الحاضر ، وهم في هذه الحال يشبهون من يتعلم لغة جديدة ، فهو بطريقة غير شعورية يترجم اللغة الجديدة ذهنياً إلى لغته الأم لكي يستوعب معانيها ، فكذلك يفعل ممثلو الماضي الذين لا يفهمون الحاضر إلا بعد ترجمته بلغة الماضي ، غافلين عن أن هذا السلوك الماضوي ـ على ضرورته في بعض الأحيان ـ ينطوي على جرعة عالية من الخداع والوهم ، لأن هذا السلوك يتجاهل أن لكل عصر واقعه وحقائقه وطبيعته وأدواته ، وأن الماضي لا يمكن أن يعيش في الحاضر إلا كما يعيش السمك خارج الماء !