تحرير الصحافة!
أ.د. حلمي محمد القاعود
لقيت التغييرات الأخيرة في الصحف الحكومية ارتياحا ملحوظا لدى عامة الناس ، وإن كان الحنق والغضب والعنف اللفظي يحكم مجموعة ممن فقدوا المصالح والمنافع بسبب هذه التغييرات ، حيث عدوا الأمر " أخونة " للصحافة ، مع أن رؤساء التحرير الجدد ليس من بينهم إخواني واحد !
كانت الصحافة الحكومية منذ أمّمها جمال عبد الناصر ، وقطع ألسنة الكتاب ، وخصّصها لتسبح بحمده وتقدّس له من دون الله ، تمثل علامة على مدى الإذلال الذي تعرض له الشعب المصري البائس في فترة من أبشع الفترات التي قصمت فيها الهزائم ظهره ، وجعلته معرّة الأمم ، وألجأته إلى تسوّل طعامه وشرابه ، والاقتراض من أمم الأرض ليوفر الخبز والغذاء ومستلزمات الحياة . كان تحويل الصحافة إلى مصلحة حكومية تابعة لجهاز الأمن وصمة عار في تاريخها ، فقد كان الأمن يرفع من يعبد السلطان إلى عنان السماء ، ويهبط إلى الحضيض والسجون بكل من تشتم منه رائحة الرفض أو المعارضة أو حتى الصمت أو عدم المشاركة في زفة الزعيم ، القائد ، الملهم ، المؤمن ، المنتمي ، الذي ولدت مصر يوم ولد ، وعادت إليها الروح يوم عاد من رحلة علاجية !
الصحافة المصرية تحولت إلى صحف حائط تتغنى بأمجاد الحاكم المزيفة ، وتنشر له ولزوجه وأولاده الصور الملونة بحجم الصفحة الأولى أو أقل قليلا في معظم الصفحات ، وتحتفل بعيد ميلاده أكثر وأكبر مما تحتفل بعيد ميلاد محمد – صلى الله عليه وسلم – وتهتم بالعوالم دون العلماء ، ولاعبي الكرة ، وأخبار اللصوص ذوي الياقات المنشاة ؛ أكثر ما تهتم بالخبراء والفنيين والمهنيين والعمال والفلاحين !
لم تعد المهنية والحرفية هي شاغلها ، ولم يعد التنافس الإعلامي يؤرّقها أو يحرك ساكنا لديها ، بل إنها تستخدم التقنيات المتقدمة لتكوين الصور التعبيرية التي تجعل الفرعون الإله يتقدم على قادة العالم الكبار ، مع التفنّن في نشر الصور المبتذلة ، وهجاء الإسلام والمسلمين وفقا للتقارير الأمنية التي ترسل بها لاظوغلي وجهات أخرى !
نشأ جيل من الصحفيين يكتب للفرعون الإله وليس للشعب المظلوم ، يحرص الكاتب أن يكون الرئيس " المنتمي " أول من يقرأ المديح الكاذب الزائف أو المعارضة الأمنية المتقنة التي يوجهها ضابط هنا أو هناك ، كي يفوز بالمناصب الأعلى والغنائم الأوفر، وحبذا لو كان سيادة الصحفي الطموح من الحنجوريين الذين يُسْكتون المعارضة الحقيقية ( في العهد الذي فتحت حنفية الحرية الكلامية قليلا ليمكن التعرف على من يعارضون النظام حقيقة) !
عندما قامت ثورة يناير ونجحت بفضل الله ، تحوّل المدّاحون والحنجوريّون إلى ثوار بين عشية وضحاها ، وكالوا السباب والشتائم إلى الفرعون الإله الذي سقط ، وإلى أسرته وأتباعه الكبار ، واخترعوا بالخيال قصصا مشينة ونسبوها إلى سيدهم الذي هوى مع أسرته ، وزعم كل منهم أنه كان ثوريا حتى النخاع ، ولم يخجلوا من أكاذيبهم وأساطيرهم التي لم يصدقها أحد .
لقد ظنوا في لحظة ما أن النظام كله قد سقط ، ولكن رأسه هو الذي سقط ، وعندما بدأ جسم النظام من خلال الدولة العميقة يأخذ زمام المبادرة ، وظهر صاحب الصندوق الأسود في انتخابات الرئاسة ،وأعلن أن صندوقه يحوي كثيرا من الحكايات والقصص ، انقلب أهل الطموح الصحفي الأمني مائة وثمانين درجة ، وراحوا ينفذون الخطة القديمة للنظام البائد لتعطيل الديمقراطية وإنهاء الثورة والتشهير بالشرفاء والأبرياء، والتبشير بمجازر ودمار وخرائب ستكون مصير مصر والمصريين ، وفي الوقت نفسه يضمنون أن ما يتعلق بهم من فضائح مخزية لن يراه الناس أو يعلموا به ، وخاصة من تطالهم الفضائح الخلقية والسلوكية.
رأينا الصحف تمتلئ بعشرات القصص الكاذبة والمزيفة التي كان مصدرها قسم الشائعات التابع للصندوق الأسود ، وهو ما جعل بعضهم يعتقد أن دولة الصندوق الأسود قادمة لا محالة ، وأنها ستعيد دولة الفرعون الإله ، وتبقيهم على حجرها إلى الأبد ، ولذا أمعنوا في الفحش والإجرام والإهانة ، وكان نصيب رئيس الجمهورية المنتخب من قبل أن يضع قدمه في مكتبه كبيرا وضخما ويوميا ، لدرجة أن صحيفة يومية حكومية كانت تقدم مطلع كل صباح ما لا يقل عن ثلاثين موضوعا ورسما هزليا ، كلها إهانة وتحقير وازدراء للرئيس ومن ينتسب إليهم ، دون أن يشيروا بحرف إلى الدولة العميقة وجرائمها ضد الوطن والحرية والديمقراطية ..
وقد لعب الشيوعيون الحكوميون والناصريون والعلمانيون والمرتزقة دورا أساسيا في هذا المشهد القبيح والمؤلم ، حيث استباحوا كل قيمة نبيلة ، وأولها الصدق والموضوعية والإنصاف ، وقد منحهم بعض التصرفات والمقولات التي نسبت إلى إسلاميين بالحق أو بالباطل وقودا فعالا لسلوكهم المشين!
إن من يتأمل ما كتبوه أو أذاعوه طوال ست شهور مضت من تدليس وتضليل وأكاذيب يتأكد أن قضيتهم الأولى هي مواجهة الإسلام ، وهو ما أثر بالسلب على جموع المواطنين الذين لا يسمعون ولا يشاهدون ولا يقرءون إلا ما يقوله هؤلاء الحواة الكذبة ، وكان ذلك على حساب الوطن ، وتقدمه وحريته!
لقد روجوا للطائفية ، ونفخوا في روح الجاهلية ، وأعادوا عصور الإرهاب الفكري بأبشع ما عرفته الإنسانية، وكانوا في كل ذلك يرتدون ثياب الحملان ، ويرددون دعاوى حرية التعبير وحق التفكير ، وواجب النقد ، وسلطة المعارضة .
لقد منعوا صوت كل من يخالفهم ، وأقصوا كل قلم يعارضهم ، وحرموا كل ضيف يريد أن يفند أكاذيبهم وإفكهم وباطلهم ، واعتمدوا على بقاء الدولة العميقة التي ستعيد لهم ولمجموعاتهم المستبدة نظام بابا مبارك !
كان تحرير الصحافة في شفافية غير مسبوقة ، لم يعرفها الرائد موافي ولا ضباط أمن الدولة ، ولا كبار المسئولين من حاشية الفرعون الإله خطوة من خطوات الثورة الظافرة إن شاء الله ..
إن تغيير رؤساء التحرير خطوة في طريق تحرير الصحافة من خدمة النظام والدولة العميقة ، إلى خدمة الشعب وقضاياه الراهنة وقضايا المستقبل.