شهر رمضان وربيع الثورات العربية ونسائم التغيير


د. رمضان عمر

[email protected]

رئيس رابطة أدباء بيت المقدس / فلسطين

شكل نزول القران -على أمة محمد - واحدة من الثورات الفكرية الفريدة التي بقي تأثيرها فاعلا قرونا عديدة، حققت الأمة من خلالها انجازات عظيمة، سُجلت في سفر الخالدين،وتوارثتها الأجيال جيلا إثر جيل.

وقد ارتبط هذا الشهر الكريم بجملة من المعادلات التي لا يفقهها الا المؤمنون ، فهو شهر النصر الحاسم في معارك الاسلام الخالدة :

    غزوة بدر وكانت في السابع عشر من رمضان من السنة الثانية للهجرة.

-  فتح مكة كانت في العاشر من شهر رمضان من السنة الثامنة للهجرة.

-  معركة القادسية كانت في رمضان سنة خمسة عشر للهجرة بقيادة سعد بن أبي وقاص.

-  فتح بلاد الأندلس كان في رمضان سنة 92 هـ بقيادة طارق بن زياد.

-  معركة الزلاقة وهي في جنوب دولة إسبانيا حالياً كانت في سنة 479هـ.

-  ومعركة عين جالوت كانت في رمضان سنة 685 بقيادة السلطان قطز والقائد العسكري بيبرس.

-  موقعة حطين كانت في رمضان سنة 584هـ بقيادة صلاح الدين.

-  ثم حرب رمضان 1973 -أو حرب أكتوبر- كان في رمضان سنة 1393ه، وفيها تمكنت القوات العربية المسلمة من الانتصار على القوات الصهيونية الغاصبة، فعبرت الجيوش العربية قناة السويس وحطمت أسطورة "الجيش الإسرائيلي" الذي لا يقهر، وهدموا بحمد الله خط بارليف.

كان ذلك حينما كانت الأمة تنهل من معين الحق الصافي؛والمورد العذب، هناك حيث تتفجر ينابيع الحكمة من شذى القران العبق، وتجليات آياته النيرات، لتبني صروح السؤدد؛ فيسمو مجدها عليا حتى يحاكي السماكين زهوا، ويمتد ظلها حتى تطوى لسلطانها البلاد شرقا وغربا؛ثم قال قائلها: أمطري أيتها السحابة أنى شئت فإن خراجك عائد إلي بإذن الله

وشهر رمضان يمثل للمسلمين باب للثبات والتوحد واللجوء الى الله لتحقيق مبدا الولاء الخالص فهو شهر اعلان هوية في وجه الغزوات الفكرية ، ومن هنا كالنت الحسم فيه على عين الله ووفق منهج الله .

كان التغيير يحدث في هذا الشهر تحقيقا للقاعدة الربانية " ((إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ))[الرعد:11

وقد تجلت تلك الثورة الفاعلة في حياة الرعيل الأول- من الصحابة والتابعين - جعلت من العصر الإسلامي الأول عتبة لنهضة طال أمدها، وامتد أثرها، فاهتز لها عشر كسرى، وهوى عرش قيصر، وصارت أمة العرب من بعدها امة ذات سيادة وريادة، لها مركزيتها الفاعلة التي تحرك جناحي الأرض بمجداف العقيدة، واستجاب لها الكثيرون حتى تحقق فيها قول الله " إذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ(1) وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا(2) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا(3) ) مما اقتضى الحمد والتسبيح، لكن انتكاسة مخيفة حلت بهذه الأمة بعد ذلك؛ فاتبع بعض أبنائها الشهوات، وسلكوا مسالك الهوى؛ فران على قلوبهم بعض ما كسبوا من الإثم؛ فأخذت الأمة تبتعد شيئا فشيئا عن جوهر القوة الفاعلة فيها، وتنحرف عن المسار السوي المستقيم الذي أخرجها على الجودي لتكون خير امة، حتى شكا منهم رسولهم عند ربه فقال(وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا )(الفرقان:30)؟

 نعم،خبا نور القران فيها واستبدلته بالغث من فلسفات وقيم وتصورات ما انزل الله بها من سلطان؛وحكمت بغير ما انزل الله، وسلكت دروبا من الرجعية المظلمة في أتون تقليد الغرب الحاقد واستجابة لعقائده الباطلة والتزام منهجه البائس الفاشل في الحياة؛ فخسرت أيما خسارة؛ وكيف لا تخسر ذاك نداء ربها يحذرها من زلة الانحراف " وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِيناً فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ ) [آل عمران:85] " بل " وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى))[طه:124-126]، فتوارى ذلك القبس النوراني الأخاذ، وانكمشت تلك القوة الخارقة لأمة الحق.

 القرآن الذي انزل على محمد في شهر رمضان فيه هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان؛ فيه دليل نجاة ومنهاج حياة ورؤية واضحة في التبصير والتغيير والتمكين.

(شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ)

كان العرب قبل الإسلام أشتاتا مفرقين لا تجمعهم إلا عصبية مقيتة وغريزة فاتكة، ومنطق لا يحتكم للعلم ولا للعقل في كثير من تصوراته حتى قال قائلهم:

وَهَل أنا إلاَّ مِن غَزِيَّةَ إن غَوَتْ * غَوَيْت وإِن تَرْشُد غَزِيَّةُ أَرْشد

 ثم جاءهم رسول من عند أنفسهم، بكتاب مبين، كما قال علي -كرم الله وجهه-: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: كتاب الله فيه خبر ما قبلكم، ونبأ ما بعدكم وحكم ما بينكم، هو الفصل ليس بالهزل، هو الذي لا تزيغ به الأهواء، ولا يشبع منه العلماء، ولا يخلق عن كثرة رد، ولا تنقضي عجائبه، هو الذي من تركه من جبار قصمه الله، ومن ابتغى الهدى في غيره أضله لله، هو حبل الله المتين وهو الذكر الحكيم، وهو الصراط المستقيم، هو الذي من عمل به أجر، ومن حكم به عدل، ومن دعا إليه هدي الى صراط مستقيم) (1.(

نزل القران على امة جهلاء؛فنقلهم من ظلامات الجهل إلى أنوار المعرفة، ومن ضيق العصبية إلى رحابة الانتماء والولاء للخالق العلي العظيم.لكن هذا النقل العجيب يسترعي قراءة في طرائق التغيير التي مست القوم، من خلال عقيدة الولاء وتمثل القران منهاجا ودستورا.لعل امة كأمتنا اليوم تسترشد بسلفها الصالح؛ فتسلك ما سلكوا فتنجوا كما نجوا وتغير وتتغير كما غيروا وتغيروا.

  منطق القران في التغيير:

إن منطق القران في سبر الأمور، وتشكيل الفرد والجماعة يجعل الباحث الحصيف يسرع إلى القول: إن هذا القرآن قد أعاد تشكيل الشخصية البشرية التي امتثلت لمصطلح الصبغة" صبغة الله ومن أحسن من الله صبغة ونحن له عابدون(138) فكانت كما خلق الله في أحسن تقويم.فكانت امة واحدة لها هوية واحدة، مصدر واحد في التوجيه والتلقي. قال ابن عباس صبغة الله: دين الله، وإنما سماه صبغة لأنه يظهر أثر الدين على المتدين كما يظهر أثر الصبغ على الثوب، وقيل: لأن المتدين يلزمه ولا يفارقه، كالصبغ يلزم الثوب، وقال مجاهد: فطرة الله، وهو قريب من الأول، وقيل: سنة الله) (2).

نعم لقد كان اثر القران واضحا في جسد هذه الجماعة حتى وصفهم من وصفهم أنهم كانوا مصاحف تمشي على الأرض.

وكان نزول القران في رمضان إعلان لربط هذا الكتاب بمنطق عملي؛وكأن شهر رمضان قاعة امتحان كبيرة يتنافس فيها الممتحنون لنيل الرضا والوصول إلى أعلى المهام المنوطة بهم؛ حيث إن هذا الشهر شهر عبادة، والقران كتاب متعبد به، ومن مقاصد العبادة ترويض النفس على الصبر، ومجالدتها في الهوى، وتزكيتها، وحملها على روحانية عالية. ومن هنا، كان التنزيل تجليا لتربية الأمة. لتقوم بدورها في الحياة كما أراد ربها لها.فالتربية للأمة جزء مهم من استراتيجيات البناء العملي لهيكلية هذه الأمة باعتبارها امة عاملة؛

 ومن هنا كانت هذه الأمة خير أمة أخرجت للناس من خلال سلوكها العملي في التغيير حين ترجمت تعاليم كتابها إلى معالم في أعماق الروح، وخطوات عملية على مدارج العمل "

 (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ)

 ومن هنا-أيضا- فإن التشكل المنشود لا يمكن تحقيقه دون إرادة فاعلة تتزيا بصفات السعي أمرا بمعروف أو نهيا عن منكر، والسعي وفق منطق الأمر والنهي هو شكل من أشكال النظام السياسي في تكوين هذه الأمة؛ لحفظها من الفوضى وحملها على بناء مجتمع سليم وحمايتها من زلات المنكرين الساعين في الأرض فسادا..وخصوصية التربية التي تقدمها التجربة الروحانية في رمضان تمثل أربع منطلقات محطات تتمثل في إصلاح النفس من الهوى بحرمانها من الشهوات، ثم ربطها بوحدة الشعور المجسدة لمفهوم الأمة الواحدة، ثم احتكامها لمنطق الإخلاص باعتبار الصوم سر بينك وبين الله، ثم جعل الصوم بحد ذاته تجربة تكثيفية يقاس عليها في باقي أيام السنة من خلال احتواء الصوم على عدد كبير من العبادات: كالصوم والصدقة والصلاة " القيام" والدعاء وقراءة القران، أي أن الصوم تكثيف عبادي لإتمام بناء الروح.

  شهر رمضان والتربية الإرادية :

 في شهر رمضان تستنفر الطاقات وتكبت الشهوات، ويسمح للعقل والقلب أن يتنافسا في تشكيل عالم الروح من خلال الطاعات والتأملات، والتغيير يقع من خلال تلك الطاقة القادرة على كبح جماح الشهوة وإعداد الجسد لتلقي أوامر الطاقة وفق رؤية الشرع؛ ومن هنا تنصاع الجوارح لأمر الروح فيتوقف الجهاز الهضمي عن ممارسة دوره الشهواني، وتصمت الجوارح كي تنال رضا خالقها، فلا رفث ولا فسوق ولا جدال، ولكن عبادة وصبر.

 هذه التربية الروحية المتواصلة عبر شهر كامل تعد الجسد كي ينطلق من إساره ومكبلاته؛ فتولد الإرادة الفاعلة لتحقيق أسباب النصر والتمكين من صبر على البلاء، واستجابة لأمر الله، وتنفيذا لأحكامه. ومن هنا فان واحدا من عبر الصوم انه رؤية في تجسيد الإرادة الفاعلة لمجابهة المنكر وصقل الشخصية ودفعها نحو عالم فاعل نشيط.

التربية الرمضانية وأثرها في التغير الاجتماعي :

 هناك سمت عجيب يفرضه ذلك المنطق الروحاني الرمضاني لأمة تصوم في وقت واحد، وتفطر في وقت واحد ويتخللها شعور فيزيائي واحد، يقع من خلال اثر الصوم على الجسد،وكأن منطق الصوم يصر على بناء التكافل الاجتماعي من خلال انصهار الأمة كلها في تجربة الصبر والمعاناة، وهنا يتجلى مفهوم الوحدة الروحية التي تدفع إلى تشكيل تكافل اجتماعي يشعر الغني فيه تجاه أخيه الفقير امة واحدة تتلقى أوامرها من اله واحد:" {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء: 92]. وفي الآية الأخرى: {وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ}

رمضان والتغيير السياسي :

إن اثر التغيير السياسي لشهر رمضان على امة الرحمن لا يمكن إغفاله أبدا؛ ذلك أن مفهوم الصيام:التزام الشرع في وحدة تكافلية جمعية،هذا المسار الجمعي يرد الأمة إلى منهج واحد في التصور والاعتقاد والتكافل، ويمنحها فرصة حقيقية للانطلاق من رؤية التكافل وحشد الطاقات لبناء نفسها، مما يعني أن حالة الضياع والفرقة تستدعي استحضار دلالات وعبر هذا الشهر، لتعود الأمة فتنصهر في الصبغ الربانية تحت مهج قويم فتكون بذلك قد شكلت جبها، واحدة تلتزم بهم واحد ولا تحتكم لقطرية ضيقة كما ه الحال اليوم.

 ومن هنا فان ثورة التغيير في الفكر الذي يجتاح النفس في رمضان من خلال مفهوم التطهير والبناء والصبر يجعلها امة ذات غاية واحدة وهم واحد وتور واحد ح وهذا يؤهلها أن تبحث لها عن جبهة واحدة تتخذ شكلا سياسيا واحدا

وقفة مع حال الأمة:

يأتي شهر رمضان هذا العام وجرح الأمة ينزف، وكلومهم تدمى،فأين شهر الرحمة إذا، إن صحوة الضمير التي هيجت من خلال الفعل العبادي المرتبط بالتربية السلوكية عبر نفحات الخير في رمضان تستدعي نقل التجربة الفردية اليوم إلى تجربة جمعية؛ فإذا كان شهر رمضان هو شهر الانعتاق من النار في الآخرة فقد آن لأمة القران أن تنعتق من ظلم الحكام وجور الطواغيت، وتعلن التمرد على شياطين البشر وتتوحد في وحدة شعورية مع جراحات المنكوبين فتتداعى لمصائب المظلومين في سوريا وبورما واليمن وفلسطين والعراق وأفغانستان والصومال لتكون بحق امة القران وأمة الصيام وفي الصحيحين عن النعمان بن بشير رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: { مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى شيئا تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى }. وفيهما عن أبي موسى رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا، وشبك بين أصابعه).

الهوامش :

1) مصنف ابن أبي شيبة ج 7 ص 164

2) عن تفسير البغوي .