الأهمية الإستراتيجية لمعركة حلب
محمد عبد الرازق
في تقرير لها عن الثورة السورية، تحدثت صحيفة ديلي التلغراف عن مدينة حلب، محددة موقعها من الخارطة السياسية السورية بشكل يكاد يلخص الأهمية الاستراتيجية لما بات يطلق عليه اليوم ( معركة حلب ).
تقول الصحيفة: كإحدى أكثر مدن المشرق التي كثرت الحكايات عنها، كانت حلب أيضًا، لقد كانت من أكثر المدن تمردًا. فقد دبر أهلها أول انقلابين في سورية الحديثة: انقلاب العقيد حسني الزعيم في ( نيسان 1949)، وانقلاب العقيد سامي الحناوي بعده بأربعة أشهر، و قد أدراك حافظ الأسد هذا الأمر جيدًا، و أراد أن يحصن حكمه من دوامة الانقلابات هذه التي اجتاحت البلاد قبل استيلائه على السلطة في الثورة التصحيحية ( عام 1970)؛ ممَّا جعله يعي بسرعة الدرس الذي لم يستوعبه أسلافه البائسون؛ لكي يحكم سورية. ألا وهو أنه يجب السيطرة على حلب؛ فسعى إلى كسب تأييد شريحتين مهمتين فيهما، يشكلان مفصل الحياة فيها، هما: طبقة تجار حلب ، والسلطة الدينية السنية في المدينة. ولذلك شكل تحالفات مثمرة مع الفصيل الأول وأغرى الفصيل الثاني؛ مما أدى إلى تهدئة المدينة بنجاح لفترة من الزمن. ما عدا ما كان منها في الثمانينات، و سرعان ما أعادها إلى حدٍ ما إلى سابق عهدها.
و أشارت الصحيفة: إلى أن حلب ظلت مستقرة تحت حكم نجل الأسد، وخليفته بشار، و حتى عندما اندلعت الثورة ضد حكمه في العام الماضي؛ أثبتت المدينة أنها واحدة من أكثر المدن كرهًا لشق عصا الطاعة؛ فكان المتظاهرون في المدن الأقل خنوعًا كثيرًا ما ينشدون: (حلب أين أنت؟ )؛ اعترافًا منهم بخيبة أمل المعارضة؛ لعجزها عن تأليب المدينة التي يمكن أن تشكل التباين بين بقاء الأسد وسقوطه.
و على الرغم من أنها ثاني أكبر المدن السورية إلا أنها فاقت دمشق لفترة طويلة من تاريخها الحديث. و نظرًا لقربها من الحدود التركية حيث تقع حلب في نهاية طريق الحرير من الصين، كانت مركزًا تجاريًّا مهمًا لقرون، وترك فيها تراثًا معماريًا رائعًا من الخانات والأسواق.
وكانت أهميتها هذه معترفًا بها دوليًّا؛ فعندما كانت شركة المشرق العربي الإنجليزية تبحث عن مقر لها في الشرق الأوسط في نهاية القرن السادس عشر اختارتها مقرًّا لها.
صحيح أن نظام الأسد قد نجح في تحويل قدر كبير من التجارة منها إلى دمشق، إلاَّ أنها ما زالت أهم المدن الصناعية في سورية، فيقدر حجم الاستثمار فيها بما يقرب من ثلاثة مليارات دولار، ما بين محلي، و أجنبي ( تركي تحديدًا).
وقالت الصحيفة: إنه على الرغم من أن كثيرًا من أهالي حلب كانوا يظهرون الولاء للنظام؛ إلا أن الثوار قد تمكنوا أخيرًا من إيجاد موطئ قدم لهم فيها، وإن كان جزئيًّا. و أعانهم على ذلك أن الأسد قد أُجبر على سحب قواته منها لحماية عاصمته؛ مما جعل ثقله فيها أقل زخمًا.
وأضافت: إنه حتى إذا استطاع الأسد استعادة السيطرة عليها، فقد أصبحت أكثر تضعضعًا مما كانت عليه في الماضي؛ فإلى الشمال منها تزداد الثورة قوة. فالمدن المهمة مثل إعزاز وحريتان وعندان صارت الآن معاقل للمعارضة، و معظم الطبقة العاملة السنية فيها قد انقلبت عليه، وهو الأمر الذي تجلى بوضوح في سلسلة من هجمات الإحراق العمد للمصانع في المدينة خلال الأشهر الأخيرة. وقد بدأ أصحاب المصانع يدركون أن دعمهم للنظام لم يعد في مصلحتهم، وبدأ العاملون بالمصانع يثورون وشُلت حركة التجارة؛ لأنه صار من المستحيل نقل البضائع إلى الحدود التركية المجاورة، وسورية عمومًا باتت تعاني من أزمة اقتصادية تلف جميع جنباتها.
وختمت الصحيفة تقريرها بالقول: إن الطبقة التجارية التي نجح الأسد الأب في استمالتها، بدأ يخسرها الابن؛ فإنَّه بخروج حلب عليه، و لحاقها بأخواتها من المدن الأخرى فإن فرص بقائه في سدة الحكم بعد باتت أقلَّ حظًا من قبل.
هذه جملة من المعطيات التي أفرزتها الأحداث الراهنة التي تمرّ بها سورية، و لاسيما بعد الصفعة المؤلمة التي تلقاها في يوم الاربعاء (الثامن عشر من هذا الشهر )، التي أعقبها دخول العاصمتين على خط المواجهة معه. غير أن لدخول مدينة حلب في ذلك أبعاد أخرى، غير التي أشارت إليها صحيفة ديلي تلغراف في تقريرها.
فهي في حال احتفاظ الثوار بها، و إحكام سيطرتهم عليها تكون قد شكلت مع المنطقة الشرقية، و الجنوبية حائط صدٍ قوي في وجه قوات الأسد، هذا فضلاً على تأهلها لتكون عاصمة مؤقتة لقادة المعارضة بشقيها ( السياسي، و العسكري)، و هو الأمر الذي ألمح إليه المتحدث باسم المجلس الوطني ( جورج صبرة ) قبل أيام قليلة؛ و بذلك تضمن المعارضة تأمين الخطوط الإمداد لها من الخارج عبر تركيا، و يعينها في ذلك سيطرتها على المعابر الحدودية معها في حلب، و إدلب.
و بالطبع إنه في حال تحقق هذا المكسب الميداني، و السياسي للمعارضة؛ فإنه لا يعني أن الأمور قد حسمت فيها؛ إذ ما يزال أمام المعارضة مشوار آخر يتمثل في إتمام إخراج العاصمة ( دمشق ) من قبضته.
إن الأمور بعد عملية الثامن عشر من تموز قد اتجهت في مناحي أفقدت النظام السيطرة السياسية، و بعضًا من السيطرة الميدانية على أهم مدينتين في سورية؛ و عليه فإن كثيرًا من المتغيرات في المواقف قد جاءت تبعًا لذلك، فأراد أن يعوض شيئًا من الهيبة التي فقدها؛ فقام على وجه السرعة بلملمة قواته المبعثرة في المحافظات المجاورة لمدينة حلب، ليوجه لها ضربة سريعة لها تجعل حلفاءه في وضع يمكنهم من الحديث عن قدرته في الحسم، و إمساكه بزمام الأمور، و بالطبع إن حالته النفسية، و التعبوية بحاجة إلى مزيد من الدعم ماديً، و معنويًا؛ و لذلك وجدنا حلفاءه في دول الجوار ( السيد حسن، و المالكي )، و الإقليم ( سعيد جزائري، و علي صالحي )، و المحيط الدولي ( لافروف ) يعدونه بتوفير كل أنواع الدعم لخوض معركة حلب؛ التي أطلق عليها ( أم المعارك )، قاصدًا من ذلك الإيهام بأنه في حال كسبها فإنه قد قصم ظهر المعارضة.
مع العلم أنه كثيرًا ما أطلق مثل هذه التوصيفات في جولاته التي خاضها في المدن الأخرى طيلة سنة مرت بها هذه الحملة العسكرية للقضاء على الانتفاضة الشعبية، و لطالما أتحفتننا بثينة شعبان بمقولتها الشهيرة ( الأمور خلصت ) قبل تسعة أشهر من يومنا هذا.
إنَّه من الغباء أن تُحمَّل جولة من جولات النزال كل هذه الأهمية، و لا سيما أن المعركة تدار من قبل كتائب الجيش الحر بمنطق حرب العصابات؛ نظرًا لتفاوت ميزان القوة. و بالتالي فإن كسب جولة من قبل كتائب الأسد، أو انسحاب تكتيكي يضطر إليه الجيش الحر لا يعني أن المعركة قد حسمت، و وضعت الحرب أوزارها. فهذا ديدن الأمور منذ سنة في شتى المناطق، و ما من منطقة انسحب منها الجيش الحر استطاع الأسد أن يبسط سيطرته الدائمة عليها؛ و هذا يعني أنه عاجز عن تحقيق السيطرة السياسية على تلك البلدات، و المدن التي سرعان ما يعود إليه الثوار، و يقيموا فيها سلطة الأمر الواقع، و الشواهد على ذلك أكثر من أن تحصى في عموم أنحاء سورية.
و ضمن هذا السياق يمكن أن توضع التصريحات المتتابعة التي تقول بأن الأسد ساقط لا محالة، و أن المسألة باتت مسألة وقت ليس إلاَّ، و قد كان آخرها ما صرح به الجنرال مود.
إنَّ الأيام القادمة حبلى بكثير من المعطيات التي ستبنى على معركة حلب، بغض النظر عن الصورة التي سيبدو فيها المشهد الميداني، و هي في مجملها لا تحمل بشائر الخير للأسد. بقدر ما تقربه من حتمية السقوط.