العلم بين الإيمان والغرور
عبد العزيز كحيل
ليس أوّل ما نزل من القرآن الكريم "اقرأ" فحسب كما يتردّد على الألسنة، بل هو "اقرأ باسم ربّك الذي خلق" (سورة العلق 1)،لأنّ الأمر لا يتعلّق بمجرّد القراءة ولكن بالقراءة الواعية، أي أن المطلوب لا يقتصر على طلب العلم وإنّما العلم المترافق مع الأخلاق الإيمانيّة،فإن خلا منها تحوّل إلى مصدر للغرور والكبرياء ،سواء بالنسبة للأفراد او الامم ، وحال الغرب دليل ناطق على هذه الحقيقة، فقد اتّجهوا هناك، في القرون المتأخّرة، إلى تحصيل المعارف عن الكون والانسان فاستكشفوا الأرض وباطنها والفضاء وأرجاءه والبحار وأعماقها،ووقفوا على سنن التسخير والقوانين التي أودها الله في الطبيعة،وبرّزوا في الرياضيات والفيزياء والكيمياء والفلك والطبّ والهندسة وغيرها،وفجّروا الذرّة وغاصوا في أسرار الخلايا والجينات، ودرسوا خبايا جسم الانسان وخفاياه، و وسّعوا نطاق العلوم الانسانية والاجتماعية، و أحدثوا اكتشافات واختراعات مُذهلة بهرت العقول وغيّرت مجرى حياة البشر في جميع الميادين، لكن نتج عن هذا التفوّق العلمي مشكلتان أساسيّتان:
- أدّى الانفصام بين العلم والأخلاق إلى استخدام هذا العلم فيما يُهلك الانسان والبشرية والحياة ، كالأسلحة الفتّاكة والتصرّف الجنوني في الخلايا والجينات لتغيير خلق الله، فنتج عن ذلك أمراض غريبة كجنون البقر وانفلونزا الطيور وانفلونزا الخنازير، تُنذر بالمزيد ممّا يهدّد النوع البشري والكون كلّه.
- بلغ الغرب حدّا متقدّما من الغرور والغطرسة صرّح معه أنّ الانسان قد " قتل الله وحلّ محلّه "، أي أصبح قادرا على صنع المعجزات بنفسه، فلم يعُد في حاجة إلى فكرة الإلهوالدين والعقائد السماوية.
إنّ الغرب ينطبق عليه قول الله تعالى "كلاّ إنّ الإنسان ليطغى أن رآه استغنى" (سورة العلق 6-7)، فهو شديد الافتخار والاغترار بإنجازاته منذ عصر النهضة (بعد قرونه الوسطى المتّسمة بالجمود والتخلّف ) ثم العصر الصناعيّ عصر التقنية العالية، وهي إنجازات لا ينكرها أحد ولا يكابر فيها، بل امتدَّ نفعها إلى البشريّة كلّها، لكن المشكلة تكمن في غرور الغربيّين بذلك حتّى أنساهم خالقهم وحدود آدميّتهم، ومال بهم إلى الاستخفاف بالله والدين والغيب، لاعتقادهم أنّ العلم الّذي يمتلكون ناصيته يُغنيهم عن كلّ ذلك لأنّه – في نظرهم – يجيب عن كلّ الأسئلة ويحلّ جميع المشكلات، فلا يترك موضعاً لدين ولا وحي ولا نبوّة، وذلك هو الاستغناء الممقوت الّذي لا يفسد العلاقة بالله فحسب بل يلقي بظلاله على البشريّة في هذه الحياة، فالغرب أبدع في الماديات وأفلس في الروحيات، وعظّم من شأن العقل وأهمل القلب، واعتنى بجسم الإنسان طبيّاً ورياضيّاً ومعيشيّاً وجماليّاً إلى حدّ الإسراف وأهال التراب على الروح بل ازدراها وقلّل من شأنها ووضعها في خانة الأوهام، فجلب الشقاء لنفسه وكان قدوةً سيّئةً للبلدان والشعوب، وقد أضحت بلاد الازدهار هي مرتع الانتحار، وانتشرت هناك العيادات النفسية وتكاثرت بشكل عجيب عساها تخلّص الإنسان من نفسه بعد سيطرة الأمراض النفسية والقلق والاضطرابات والانهيارات العصبيّة عليه رغم علمه وثرائه ورغد عيشه.
حال الغرب ينطبق عليه قول الله تعالى" فلمّا جاءتهم رسلهم فرحوا بما عندهم من العلم - سورة غافر 83، قال ابن كثير رحمه الله: " لمّا جاءتهم الرسل بالبيّنات والحجج القاطعات والبراهين الدامغات لم يلتفتوا إليهم و لا أقبلوا عليهم واستغنوا بما عندهم من العلم في زعمهم ".
وقالالأستاذ سيّد قطب رحمه الله: "العلم – بغير إيمان – فتنة، فتنة تعمي وتطغي، ذلك أن هذا اللون من العلم الظاهريّ يوحي بالغرور، إذ يحسب صاحبه أنّه يتحكّم بعلمه هذا في قوى ضخمة، ويملك مقدّرات عظيمةً، فيتجاوز بنفسه قدرها ومكانها ! وينسى الآماد الهائلة الّتي يجهلها، وهي موجودة في هذا الكون ولا سلطان له عليها، بل لا إحاطة له بها، بل لا معرفة له بغير أطرافها القريبة، وبذلك ينتفخ فيأخذ أكثر من حقيقته ويستخفّه علمه وينسى جهله، ولو قاس ما يجهل إلى ما يعلم، وما يقدر عليه في هذا الكون إلى ما يعجز حتّى عن إدراك سرّه لَطامَنَ من كبريائه، وخفّف من فرحه الّذي يستخفّه".
تلك هي المشكلة...الغرور الذي أنشأه العلم المحدود – رغم اتّساع دائرته – لدى الانسان في الغرب فدفعه إلى الاستغناء عن الله تعالى وإعلان موته ورفض هدي السماء حتّى في المجالات التي لم يحلّ فيها هذا العلم أيّة مشكلة، وعلى رأسها مجال الانسان ذاته،عواطفه وأفكاره وروحه وحياته الأسرية والاجتماعية والسياسية، ويكفي للاستدلال على إخفاق العلم " الغربي " هنا حالة البشر في أمريكا وأوربا وما هم عليه من حيوانية واندام معاني العفّة والعرض، وسعيهمالملهوف خلف طمأنينة نفسية لم يوفّرها الانتاج الضخم ولا المعرفة التي يتباهون بها ، إنّها لعنة التمرّد على الله تعالى ومعاكسة الفطرة السويّة ، إنّه الإخلاد إلى الأرض الذي أشار إليه القرآن الكريم : " واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها فأتبعه الشيطان فكان من الغاوين،ولو شئنا لرفعناه بها ولكنّه أخلد إلى الأرض واتّبع هواه ، فمثله كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث ، ذلك مثل القوم الذين كذّبوا بآياتنا ، فاقصص القصص لعلّهم يتفكّرون " (سورة الأعراف 175-176)
هكذا شأن هذا الغرب الذي أبدع في البحث والانتاج المتنوّع و اخترع، ورأى من خلال الدرس والبحث والتفكير آيات الله في الآفاق، لكنّ ذلك أبعده عن منهج الله ودينه بدل ان يقرّبه منه، فانسلخ عن الدلائل البيّنات التي أبصرها في الآفاق والأنفس، وانحرف عن الفطرة التي انطلق منه، ولصق بالأرض بدل ان يرتفع إلى هدي السماء ، ففَقَدَ راحة البال وسكون النفس وسعادة الدنيا ، وما له في الآخرة من خلاق، فما فائدة هذا العلم الذي يسبر أغوار الكون ويتعرّف على سننه ويسخّره للبشر، لكنّه يقودهم إلى الكفر والجحود ويجرّئهم على الدين ويقطع صلتهم بالسماء لأنّه " لا يؤمن إلاّ بما تدركه الحواسّ " كما يزعم ؟ علم يأخذ بالألباب باكتشافاته واختراعاته ومعارفه لكنّه يدعو إلى الانحراف عن الفطرة والنكوص عن الآيات التي يضع يده عليها كلّ يوم وفي كلّ المجالات، بل ينسلخ منها ليلتصق بالأرض ويتّبع هواه، ويصرّ على ذلك رغم ما يراه من تبعات وخيمة تملأ الأرجاء التي جلب لها الرخاء المادي و وفّر لها الحياة الميسّرة المزدهرة ، فقد وجد الناس في الغرب جميع المتع ورفلوا في أعطاف النعيم الحسّي لكنّهم فاقدون لراحة البال وسكينة النفس وطمأنينة القلب، فطلبوا ذلك في العيادات النفسية المنتشرة عندهم انتشارا واسعا فلم تُغن عنهم شيئا لأنّ فاقد الشيء لا يعطيه، وجلّهم يشتكي الكآبة والانعزال والشعور بالعدمية رغم أنهم أباحوا لأنفسهم كلّ شيء وما عادوا يعرفون محرّما ولا مكروها، ولا ضوابط اخلاقية، لأنّ العلم الذي يدلّون به زعم لهم أنّه يحلّ جميع المشكلات ويجيب عن كلّ الأسئلة، وهم يتأكّدون يوما بعد يوم أنّ هذا مجرّد دعوى عريضة يّثبت الواقع تهافتها.
لا ننكر وجود علماء قادتهم المعرفة إلى الإيمان لاتصافهم بالتجرّد والتواضع لكنّهم قلّة نوعية بينما تتمادى الأغلبية في خطّ عام ينحو منحى الغرور والاستغناء: " فإنّها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور " (سورة الحجّ 46)
غير أنّ كثيرا من العقلاء انتبهوا إلى الأخطار التي جلبَها هذا الغرور للعلم نفسه و للبشرية فرفعوا أصواتهم بالنصيحة والتحذير ودعوا إلى الوعي والاتزان وإدراك الانسان لحدود قدراته وخضوعه القدَري لسلطان القوانين الكونية ، ودعوا الانسان الغربي إلى تغيير مفهومه عن الحياة ليتوافق معنواميس الوجود بدل مصادمتها أو تجاهلها، ولن يتمّ هذا إلا إذا اعترف – كما يؤكّد له العلم نفسه – بوجود حتمية يتأثّر بها ولا يتحكّم فيها مهما اتّسعت معارفُه ، تتجلّى في الظاهر الكونية ومجالات النفس والمجتمع ، لا ينفيها صَلفُه وطغيانُه و " فرحُه " بنجاحه وإنجازاته، وإنّما يؤدّي التمادي في الغرور إلى فساد حسّي وأخلاقي يُنذر الحياة بالفناء لأنّ العلم المتحرّر من القيم بل المتمرّد عليها يُفسد بسلبياته بقدر ما يُصلح بإيجابياته، لهذا قال الله تعالى: "ظهر الفساد في البرّ والبحر بما كسبت أيدي الناس..." (سورة الروم 41) ، ومن اللطائف انّ هذه الآية وردت في السورة القرآنية الوحيدة التي تذكر الروم بالاسم ، والروم هم الأوروبيون أو الغربيون كما يُسمّون اليوم، فكأنّ فيها إشارة إلى أنّهم مصدر الفساد بإنجازاتهم، وهذا ما لا يخفى على أحد، فهم من فجّروا الحربين الكونيّتين واستعمروا إفريقيا وآسيا وأمريكا الجنوبية وأبادوا السكان الأصليّين في أمريكا الشمالية وأستراليا، ثمّ هم سبب مرض الأيدز وجنون البقر وأنواع الأنفلونزا المدمّرة إلى جانب المثلية الجنسية وإغراق البلاد بالنفايات النوويّة.
هذا حال الغرب مع العلم، وهو خطب كبير ، لكنّ الداهية في انجرار النخب العلمانية في البلاد العربية والاسلامية خلف تلك الحالة في تقليد أعمى لا يسمع إنذارات الغربيّين أنفسهم ولا يُبصر أوضاعَهم النفسية البئيسة ولا الآثار الجانبية للعلم المنقطع عن الإيمان، بل يدعونا هؤلاء إلى تبنّي كلّ ما عند الغربيّين " بخيره وشرّه وحلوه ومرّه ،ما يُحمَد منه وما يُعاب " ، لأنّه في نظرهم يمثّل ذروة المعجزة الانسانية ونهاية التاريخ، وليس في الإمكان أبدعُ ممّا كان !!! ، وتتمحور مشروعاتهم الثقافية والسياسية حول هذا الموضوع ، وينسبون تخلّف الأمّة إلى الدين والقيم والأخلاق، وليس من حلّ بالتالي سوى في النموذج الغربي، وليس للعلم معنى إلاّ ما عليه أوروبا وأمريكا ، ولا وجود لحتمية سوى الانضمام للموكب الغربي الذي يدوس على المعتقدات الغيبية والأوهام التي تُسمّى وإيمانا أخلاقا، ويُعلي من شأن الإنسان ويُحرّره من سطوة الدين وضغوطه، ولا ينفع الحوار مع هؤلاء الفرحين المنبهرين، وما فرحُهم سوى نسخة باردة من بطر تلك الشعوب الغربية التي انخدعت ببَهرَج الخُطط وزيف الآداب والفنون والأبحاث التي تلوي الحقائق وتحرّف الدلائل حتى لا يرتقي العباد بالمعرفة إلى مصافّ الموحّدين العابدين، فهم فرحون أشرون بَطرُون لا يشكرون الله على ما فتح عليهم من آفاق المعرفة ، وقد وصف القرآن الكريم حالهم :" وفرحوا بالحياة الدنيا وما الحياة الدنيا في الآخرة إلاّ متاع " – سورة الرعد 26
إنّالحلّ يكمن في بديل تُنتجه الأمّة الشاهدة يعيد للعلم وجهَه الحقيقي، يسير بمعيّة الإيمان فيكتسب التواضع والخشوع لينفع ولا يضرّ ويوفّر سعادة الدنيا والآخرة معًا، وصدق القائل : " خير العلم ما كانت الخشية معه".