صور من.. جرائم الكتائب الأسديَّة

د. محمّد عناد سليمان

صور من.. جرائم الكتائب الأسديَّة

د. محمّد عناد سليمان

-2-

لقد بلغ الظّلم والطُّغيان من النِّظام السُّوريّ المجرم مبلغ الذّروة في القتل والتّدمير والاغتصاب والاعتداء الجنسيّ في بعض المعتقلات ممّا يندى له الجبين، وتخرّ له القلوب باكية دمًا لا دموعًا.

صورة أخرى تراودني، وتقتحم أفكاري المفعمة بأمور الثّورة، ورجالاتها، تتزاحم مع بقيّة باقية من صور المعاناة التي خلَّدت نفسها في ذاكرتي، هي صورة فتاة أبدعت في صبرها، وأيقنت في إيمانها أنَّ الله متصرِّف في أمور العباد، يدبِّر الأمور بمشيئته ليقضي أمرًا كان مفعولاً.

هذه الصّورة حدثت في جمعة «سقوط الشَّرعيّة»، جمعة أسقط فيها الشّعب شرعيةً عن نظام غير شرعيّ، نظامٍ أجرم فأبدع في الإجرام، ظَلَم فاسبتدّ بالظُّلم، أفسد فحصَّل جميع الجوائز العالميّة في الفساد، إنّه نظام متفرِّد في عصره بالقمع والقتل والتّنكيل والتّعذيب.

هي صورة لفتاة كبدر التّمام ليلة التّشريق الثّالثة، ولها نصيب من اسمها كنور الشّمس في أصيله على الأرض، لم أدرِ قوّتها، ولم أعرف صبرها، إلا من خلال دموعي الكثيرة التي تنهمر على خدّي حزنًا، وألما على شهدائنا في هذه الجمعة المباركة.

خرجنا من المسجد، وكلّنا يقين بأنّه لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا، خرجنا وكلّنا ثقة أنَّ النّصر قادم لا محالة، تحفّنا رعشةٌ كلّها ثبات وعزيمة وإصرار، وما إن غادرنا باب المسجد ببضعة أمتار حتى غدرتنا فوهات بنادق الكتائب  الأسديَّة، باغتتنا كأنّنا العدوّ المنتظر منذ أربعين عامًا، فكان عن يميني «أحمد»، و«محمد»، و«خالد»، و«سالم»، و«أيمن»، و.....شباب باعوا أنفسهم ثمنًا للحريّة والكرامة.

شباب عقدوا العزم على أنّ الكرامة والحريّة لا محالة متحقّقة، وأنّ النّصر لا محالة قادم، فلم تخفهم رصاصات العصابات الأسديّة، ولم ترهبهم أصوات بنادقهم الغادرة، فتفرّقنا يمنة وشمالا، فأصابت الرّصاصات مَن أصابت كـ«عمار»، و«محمد»، و«محمود»، وغيرهم، وأخطأت مَن أخطأت حينها، لينكتب لمن أخطأته عمرٌ جديد، ومن بينهم «أحمد».

«أحمد»، وما أدراك مَنْ «أحمد»؟ لم يتجاوز التّاسعة عشرة من عمره، أخطأته رصاصات الغدر الأسديّة، فذهب راكضًا يبحث عن مكان يلوذ به من فوهات البنادق التي لم تميز بين صغير أو كبير، لم تراع حرمة بيت، أو مسجد، استطاع بعد جهد أن يدخل المكان الذي ظنّ أنّ فيه الآمان، وظنَّ للحظة أنَّ فيه النّجاة.

لم يدر «أحمد» أنّ القدر كان بانتظاره، حيث دخل محلاً عامًا يُباع فيه الطّعام، يبحث عن دريئة تحميه من رصاصات الأسد الطّائشة، ولم يعلم أنّ مَن في هذا المحل هو مجرمٌ من مجرمي العصابات الأسديّة، فأخرج مسدسه وقضى عليه برصاصة غادرة، نعم، نعم رصاصة اخترقت رأس «أحمد»،  لينال بها شرف الشّهادة.

وصل الخبر إلى أهله، فبكته القلوب قبل العيون، وجاء والده يحتسبه عند الله عزّ وجلّ، وجاءت أمّه الثّكلى لترى ولدها مكفّنًا بدمائه، مرتميًا على أرض المسجد الذي جعلناه ملجأ نضع فيه شهداءنا، فلا طريق إلى المقابر، ولا سبيل إلى المدافن، فكان المسجد ملاذنا وتقيانا من عصابات الأسد الغادرة.

وبين نظرة حزن، ودمعة عين، ونبض قلب يستشعر الألم والمرارة، يطل علينا البدر في تمامه، ينظرُ يمنة وشمالا، فترى صاحبة الوجه النقي دموعَ الثائرين من حولها، وثلاثة شهداء أمامها، و«أحمد» أخوها ثالثهم، قد حفّته أمّها تندب قلبها بفقدان فلذة كبدها بلحظة غدر قاتلة، وأبوها يجول ويجول بدمعة تخنق عبرته فلا تجد سبيلها للخروج، إنّه عنفوان الرّجال وكبريائهم.

وقفتْ لحظة، وانتبهت بأخرى، فجاء صوتها الصدَّاح قائلا: لا تبكوا، لا تبكوا، بل زغردوا للعريس، وانهالت بصوتها الرّنان تزغرد، وتزغرد فرحًا بأخيها العريس، إنّه عرس الشّهداء، فالبكاء فيه ممنوع، والحزن محرم، فأجر الشّهادة أجلّ وأعظم.

واستبقت الباب، فقلت لها: إلى أين؟ قالت: كيف يتمّ العرس من دون الزّفاف؟ إنّي ذاهبة أحضّر لحظة زفاف العريس، فخرجتْ مستعجلة، تهرول، وتهرول، على أرض المسجد التي غطتها دماء الشّهداء الثّلاثة، وما هي لحظات حتى يأتي الاتصال: أحضروا العريس، فقد جهّزنا لزفافه.

خرجنا نحمل العريس بين أيدينا، ورأسه شامخ إلى السّماء، مبتسمًا للقاء ربِّه، وسرنا به يشيعه آلاف وآلاف، وإذ بالنّساء مقبلات، مزغردات، راضيات، يقلن بصوت واحد:

«زغردي يا ام العريس زغرديلو............ زغردي يا ام العريس زغرديلو »

«يا الله ما لنا غيرك يا الله....................يا الله ما لنا غيرك يا الله».

وأخته أمامهم تهمس في صمت بين ازدحام أصواتهنّ:

«الموت ولا المذلَّة.......... الموت ولا المذلَّة........... الموت ولا المذلَّة».