دروس وعبر من الفتوحات العربية الإسلامية لبلاد الشام 10،11
دروس وعبر
من الفتوحات العربية الإسلامية لبلاد الشام
د. أبو بكر الشامي
خالد بن الوليد يقود جيوش الشام ( 10 )
عندما تواترت الأخبار القادمة إلى أبي بكر الصديق بحشد الروم لأعداد هائلة من المقاتلين تضيق بهم الأرض كما يقول الرواة ، ولما كان خالد بن الوليد رضي الله عنه قد أنجز مهمته في العراق على أحسن وجه ، فطهّر غربي نهر الفرات من أية قوّة فارسية ، واستقر به الأمر في الحيرة ، منتظراً إذن الخليفة بالانقضاض على المدائن عاصمة الفرس ...
لذلك رأي الخليفة الصدّيق رضوان الله عليه بنظره الستراتيجي الثاقب ، أن الموقف في الشام أكثر إلحاحاً ، وأشدّ حاجة لفكر خالد العسكري المبدع ، ولقيادته المتميّزة، فقرر تحريكه من العراق إلى الشام ، وهذا نص رسالته إليه :
( أما بعد ، فإذا جاءك كتابي هذا ، فدع العراق ، وخلّف فيه أهله الذين قدمت عليهم وهم فيه ( يقصد المثنى ومن معه من بني شيبان ) ، وامض متخفّفاً في أهل القوّة من أصحابك ، الذين قدموا العراق معك من اليمامة ، وصحبوك من الطريق ، وقدموا عليك من الحجاز ، حتى تأتي الشام ، فتلقى أبا عبيدة بن الجرّاح ، ومن معه من المسلمين ، فإذا التقيتم ، فأنت أمير الجماعة ، والسلام ...)
وفور وصول رسالة الصدّيق ، قال خالد رضي الله عنه : ( سمعاً وطاعة لخليفة رسول الله صلى الله عليه وسلّم )
وقسم جيشه إلى نصفين ، نصف معه ، ونصف أبقاه مع المثنى رضي الله عنه ، ثم التفت إلى من بقي في العراق مودعاً ومطمئناً فقال : ( إن في الشام أهل الإسلام ، وقد زحفت إليهم الروم ، وتهيؤوا لهم ، وإنما أنا مغيثٌ لهم ثم راجع إليكم ، فكونوا أنتم هاهنا على حالكم التي أنتم عليها ، فإذا فرغت مما أنا شاخص له ، فأنا منصرفٌ إليكم عاجلاً ، وإن أبطأت ، رجوت ألا تعجزوا ولا تهنوا ، فإن خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلّم ليس بغافل عنكم ، ولا بتارك أن يمدّكم بالرجال والجنود حتى يفتح الله عليكم هذه البلاد إن شاء الله )
فبكى القوم حزناً على فراق خالد لما كانوا يحبونه ويرجون النصر والفتح على يديه.
وخرج خالد من الحيرة بتسعة آلاف مجاهد ، وذلك في الثامن من شهر صفر للسنة الثالثة عشرة للهجرة ، وكتب من فوره إلى أخيه أبي عبيدة رسالة تقطر بالأدب والتواضع قائلاً : (بسم الله الرحمن الرحيم ، إلى أبي عبيدة بن الجرّاح من خالد بن الوليد ( فقدّم اسم أبي عبيدة على اسمه معرفة لفضله ) سلام عليك ...
فإني أحمد الله الذي لا إله إلا هو .. أما بعد ، فإني أسأل الله لنا ولك الأمن يوم الخوف ، والعصمة في دار الدنيا .
لقد أتاني كتاب خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلّم يأمرني بالمسير إلى الشام ، والمقام على جندها ، والتولّي لأمرها .
و و الله ما طلبت ذلك ، ولا أردته ، ولا كتبت له فيه .
وأنت رحمك الله على حالك التي كنتَ بها ، لا يُعصى أمرك ، ولا يُخالف رأيك ، ولا يُقطع أمر دونك ، فأنت سيد من سادات المسلمين ، لا يُنكر فضلك ، ولا يُستغنى عن رأيك . تمّم الله ما بنا وبك من نعمة الإحسان ، ورحمنا وإياك من عذاب النار .
والسلام عليك ورحمة الله وبركاته ... )
ثم كتب رسالة أخرى إلى جنوده الجدد في الشام : ( من خالد بن الوليد إلى من بأرض العرب من المؤمنين والمسلمين ..سلام عليكم ...
فإني أحمد إليكم الله الذي لا إله إلا هو .. أما بعد ...
فإني أسأل الله الذي أعزّنا بالإسلام ، وشرّفنا بدينه ، وأكرمنا بنبيّه محمد صلى الله عليه وسلّم ، وفضّلنا بالإيمان ، رحمة من ربنا لنا واسعة ، ونعمة منه علينا سابغة ، أن يتم ما بنا وبكم من نعمته ... واحمدوا الله عباد الله يزدكم ، وارغبوا إليه في تمام العافية يُدمها لكم ، وكونوا له على نعمه من الشاكرين .
وإن كتاب خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلّم أتاني يأمرني بالمسير إليكم ، وقد شمّرت ، وانكمشت ( أسرعت ) ، وكأنّ خيلي قد أطلّت عليكم في رجال ، فأبشروا بإنجاز موعود الله ، وحسن ثوابه ، عصمنا الله وإياكم بالإيمان ، وثبّتنا وإياكم على الإسلام ، ورزقنا وإياكم حسن ثواب المجاهدين ، والسلام ...)
ولما عرف المسلمون بقدوم خالد فرحوا فرحاً عظيماً ، لما يعرفون عنه من شجاعة نادرة ، وبطولة خارقة ، وحسن القيادة ، وميمون النقيبة ...
وأما العملاق أبو عبيدة رضي الله عنه ، الذي كانت تولية خالد ، بمثابة عزل له ، فلم يتبين في وجهه ، ولا في سلوكه أية كراهة ، ولما قرأ كتاب خالد رضي الله عنه إليه ، قال : ( بارك الله خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلّم فيما رأى ، وحيا خالداً بالسلام ) .
ولم يلبثوا إلا قليلاً ، حتى هبط عليهم خالد من صحراء السماوة كالصقر الجارح ، يسحق كل قوّة تقف في طريقه ، ويطهّر ما يمر عليه من البلدان ، فمر على عين التمر ، ثم أخذ على قراقر ، ثم شوا ، ثم اللِّوى ، ثم قُصم ، ثم مرّ على أرك ، ثم تدمر ، فافتتحها ، ثم أتى القريتين ، وحوارين ، ثم مرّ على أعراب غسّان ، فاجتمعوا له في مرج راهط ، فانتسف عسكرهم في يوم فصحهم ، حتى طلع على الجهة الشرقية من دمشق ، ونزل في غوطتها ، فدخل أهل دمشق المدينة رعباً منه وأغلقوا عليهم أبوابها ، ثم تابع مسيره حتى نزل على أبي عبيدة في الجابية ...
يا للروعة ... و يا للعظمة ... و يا لألق التاريخ ...!!!
ومرّة أخرى ، شكراً ، وألف شكر ، لرواة التاريخ ، الذين أوصلوا إلينا هذه الكنوز الباهرة ...
ومرّة أخرى أقول : ما أجدرنا أن نحافظ على هذا الإرث الحضاري العظيم ، ونقتدي به ، ونسير على نهجه ، وننسج على منواله ...!!!
--------------------
معركة أجنادين ( 11)
لم يكن الروم جالسون بلا حراك ، بل كانوا يرقبون تحركات جيوش المسلمين بمنتهى الحذر والقلق ، ونظروا إلى جيوش المسلمين المتفرّقة والمتباعدة ، فقرروا الالتفاف عليها لإرباكها ، فوجّهوا قوة إلى عمرو بن العاص في فلسطين للانفراد به وسحقه ، وفي نفس الوقت تحركت قوّة أخرى من حمص ، عليها وردان ، وهو واحد من خيرة قادتهم ، وسلكت طريق الداخل ، للالتفاف على شرحبيل المرابط في منطقة بصرى من أرض حوران للاستفراد به وسحقه أيضاً ، ثم يلتفوا على خالد وأبي عبيدة ، ويحصرونهما في منطقة دمشق بزعمهم ، بعد أن يكونوا قد قطعوا عنهما خطوط الإمداد لهما من جزيرة العرب .
ولكن عيون خالد كانت ترقب كل هذه التطورات بعين الصقر ، فقرر الانسحاب من عمق الشام ، كعادته دوماً في عدم التمسك بالأرض ، إلى أقصى الجنوب في فلسطين ، وأرسل إلى جميع الجيوش الإسلامية أن توافيه هناك ، وشدّد على شرحبيل بشكل خاص ، وحذره من وردان ، وأمره بأن لا يشتبك معه ، حتى تجتمع الجيوش ، وتكون المعركة الفاصلة ، كما أرسل إلى عمرو بن العاص يحذّره من القوات الرومية المواجهة له بمثل ما حذّر به شرحبيل ...
وتحرّكت الجيوش إلى الجنوب تسابق الريح حتى التقت جميعها في منطقة أجنادين من أرض فلسطين ، ولما أحسّ وردان بإفلات شرحبيل منه ، وتحرك المسلمين بسرعة فائقة إلى الجنوب ، خشي على القوة التي تقابل عمرو بن العاص في فلسطين من أن ينفرد بها المسلمون فيسحقوها ، ولم يكن أمامه إلا أن ينصاع للأمر الواقع ، فعبر نهر الأردن من شرقه إلى غربه ، والتحق بالجيش الرومي الذي كان يواجه عمرو بن العاص ، وكان للعبقري خالد ما أراد ، من سحب جيش وردان بعيداً عن حمص مركز انطلاقه وإمداداته ، وتجميع قواته المتفرّقة لتوجيه ضربة ساحقة لأعدائه ، واختيار أرض المعركة التي يحب هو أن ينازل فيها أعداءه ...
وتقابل الجيشان : كان ذلك في السابع والعشرين من جمادى الأولى ، للسنة الثالثة عشرة للهجرة الشريفة . جيش المسلمين ، وهو لا يزيد على ثلاثة وثلاثين ألف مجاهد ، وهم مجموع الجيوش الخمسة للمسلمين في أرض الشام ، بما فيهم جيش خالد الذي قدم معه من العراق ، وجيش الروم الذي يزيد على مائة ألف مقاتل ، ولكن المسلمين كانوا على يقين بأنهم لا يقاتلون أعداءهم بعدد ولا عدّة ، إنما كانوا يقاتلون بهذا الدين العظيم .
وعبّأ خالد قواته ، فجعل على المشاة أبو عبيدة بن الجراح ، وجعل على الميمنة معاذ بن جبل ، وعلى الميسرة سعيد بن عامر ، وجعل على الخيل سعيد بن زيد ، وأمر النساء أن يجلسن في مؤخرة الجيش لتشجيع المسلمين على القتال ...
وخرج بين صفوف قواته يحثّهم على الصبر ، ويحرّضهم على القتال ...
فأقبل حتى وقف على كل قبيلة ، وكل جماعة ، وهو يقول : ( اتقوا الله عباد الله ، قاتلوا في سبيل الله من كفر بالله ، ولا تنكصوا على أعقابكم ، ولا تهنوا من عدوّكم ، ولكن أقدموا كإقدام الأُسْد وأنتم أحرار ، فلقد أبيتم الدنيا ، واستوجبتم على الله ثواب الآخرة ، ولا يهولكم ما ترون من كثرتهم ، فإن الله منزلٌ عليهم رجزه وعقابه )
ثم قال : ( فإذا حملت عليهم فاحملوا ) !!!
فكان أول من حمل على الروم ليكون قدوة لجنوده رضوان الله عليه ، ثم حمل أصحابه من بعده ...
يقول الرواة رحمهم الله : ( فما صبر الروم للمسلمين فواق ناقة )...!!!
وانهزموا شرّ هزيمة ، وقتلهم المسلمون كيف شاؤوا ، وأصابوا معسكرهم وما حوى . ولما انتهت أخبار هذه الهزيمة المنكرة إلى هرقل ، نُخِبَ قلبُه ، وسُقط في يده ، ومُليء رعباً ...!!!
وأما خالد فقد كتب من فوره إلى أبي بكر الصدّيق يبشّره والمسلمين بالفتح العظيم ، وانظروا إلى أدبه وتواضعه مع خليفة رسول الله رضوان الله عليهم جميعاً :
( لعبد الله ، أبي بكر ، خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلّم ، من خالد بن الوليد ، سيف الله المصبوب على المشركين ، سلامٌ عليك ، أما بعد ...
فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو ، وأخبرك أيها الصدّيق أنّا التقينا نحن والمشركون ، وقد جمعوا لنا جموعاً جمّة كثيرة بأجنادين ، وقد رفعوا صُلُبهم ، ونشروا كُتُبهم ، وتقاسموا بالله لا يفرّون حتى يُفنونا أو يُخرجونا من بلادهم .
فخرجنا إليهم واثقين بالله ، متوكّلين على الله .
فطاعنّاهم بالرماح ، ثم صرنا إلى السيوف ، فقارعناهم في كل شعب وفجّ
فنحمد الله على إعزاز دينه ، وإذلال عدوّه ، وحسن الصنيع لأوليائه ، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته )
فلما قرأ أبو بكر الرسالة ، وعلم بالخبر ، فرح به فرحاً عظيماً ، وقال : ( الحمد لله الذي نصر المسلمين ، وأقرّ عيني بذلك )...
ونحن نقول : الحمد لله الذي حفظ لنا هذا التراث الخالد لأولئك الصحابة الكرام رضوان الله عليهم جميعاً ، وأوصله لنا بهذه الأمانة ، وهذه العظمة ، وهذا النقاء وهذا الصفاء ...
وحريّ بنا أن نقتدي بهم ، وننهج نهجهم ، ونسير على هديهم ، ونجاهد جهادهم ، ونصبر صبرهم ، ونتخلّق بأخلاقهم ...