التجربة الإسلامية التركية في مواجهة العلمانية

التجربة الإسلامية التركية

في مواجهة العلمانية


د. رمضان عمر

[email protected]

رئيس رابطة أدباء بيت المقدس / فلسطين

إضاءة :

الخطاب – الفكري- الإسلامي لا يمكن أن تتحدد معالمه- في ظل زحمة المذاهب الفكرية الغربية الغازية للشرق، و في ظل غياب الدولة الإسلامية الحاضنة للفكر السياسي الإسلامي، وفي ظل تلك الثورة التكنولوجية الهائلة التي حولت العالم إلى قرية صغيرة،وسمحت للمدخلات الثقافية أن تتربع –بأريحية- على عروش لم تكن في يوم من الأيام موانئ هادئة لها ؛ إلا إذا تجلت معالم نقيضه غير الإسلامي، وعريت نقائصه، وبان التباين بين منهج الله وما أمر، ومنهج  ما صاغه البشر من هوى لا يمت لإصلاح البشر بطرفة نظر .

  وفي سبيل  تحديد الهوية الإسلامية للخطاب الفكري المعاصر،لا بد من ولوج ساحة الصراع الفعلية، ومعاينة المشهد التناقضي بين  طرفي الصراع، ولا باس من أن نعترف بان الاختراق الثقافي النوعي الذي أحدثه الانفتاح الإعلامي والمعرفي مكن الأفكار الغربية الوافدة  من اقتحام ساحات المسلمين، والعشعشة في بعض العقول، ومنحها فرصة ذهبية لتقع على ارض الإسلام، وقد ساعد هذا التبوؤ ما كان من أمر واقع، تمثل في غياب سلطة الدولة المسلمة التي تحافظ على هوية الأمة، وتسعى لنشر  دعوتها كما كان يفعل السلف الصالح يوم ان كان للأمة مركزية، تمثل لها هوية جامعة، ومشروعا يمثل لها أفقا ممتدا.

 نعم، إن غياب  مشروع الدعوة، وانهزام الأمة الإسلامية أمام عدوها، في جولات حاسمة، انهزاما بدد طاقاتها، وفرق جمعها، وجعلها في أراذل الأمم حضارة وتطورا، بعد أن كانت خير أمة أخرجت للناس، عد انتكاسة عظيمة،دفعت لها الأمة ضريبة باهظة الثمن، وباتت  كما وصفها نبيها : عن ثوبان قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوشك الأمم أن تداعى عليكم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها فقال قائل ومن قلة نحن يومئذ قال بل أنتم يومئذ كثير ولكنكم غثاء كغثاء السيل ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم وليقذفن الله في قلوبكم الوهن فقال قائل يا رسول الله وما الوهن قال حب الدنيا وكراهية الموت([1])

الاسلام والعلمانية

وقد شكلت العلمانية -مصطلحا وتاريخا - واحدة من تلك الجبهات "النكدة "التي وقفت جدارا شائكا في طريق المشروع الإسلامي الحديث،ومثلت معركة الإسلام "الفكرية"-  في القرن المنصرم مع ذلك الإخطبوط العلماني المتمدد على رقعة العالم الإسلامي من أقصاه إلى أقصاه، مع تفاوت في نسب التبني هنا وهناك -  نمطا كونيا للمعارك الفكرية الحديثة،صبغ المرحلة بصبغة توليدية لطرفين متناطحين؛ فمن رحم الإسلامية ولدت الصحوة  الإسلامية، والخطاب الإسلامي المعاصر، والتصور الإسلامي، بينما ولدت العلمانية جملة من المصطلحات، من نحو: الحركة التنويرية، الحداثة، الدولة المدنية، والخطاب العصري  والفكر المتحرر والديمقراطي...... .

  وتشير الدراسات الحديثة إلى أن مصطلح العلمانية "secularism" قد  استخدم لأول مرة عام (1648) عند توقيع صلح (وستفاليا) وبداية ظهور الدولة القومية الحديثة،([2]).

ولكن تعريف ( جون  هوليوك) للعلمانية قد أعطاها بعد ا فكريا وتصورا سياسيا لمشروع يقوم على فلسفة خاصة ؛ من خلال بناء الإنسان والحضارة ؛حيث يرى أن العلمانية "  الإيمان بإمكانية إصلاح حال الإنسان  من خلال الطرق  المادية، دون التصدي  لقضية الإيمان بالقبول أو الرفض".([3])

  والعلمانية في مفهومها الشمولي تطال ثلاث جزئيات تشكل متوالية متعانقة بصورة تشابكية تمثل في النهاية منهج حياة ؛ ففي الدائرة الأولى تقع العلمانية السياسية التي  تعنى بفصل الدين عن الدولة، بينما تتسع الدائرة الثانية لتشمل علمانية الفكر؛ حيث يستبدل العقل  بالدين، وينظر إلى كل ماض مقدس باعتباره  تخلفا ورجعية، وفي هذه الدائرة تتعانق مع العلمانية مصطلحات من نحو الحداثة والتطور، بينما تقع الدائرة الأوسع في علمنة المجتمع والدعوة إلى سلخه سلخا تاما  عن كينونته الفطرية، وربطه بالمفهوم المادي المطلق  وهنا، تصبح الأخلاق والقيم واقعة تحت مفهوم براغماتي بحت، والإنسان- فيها- يعيش  حالة من الصراع النفعي المادي، بغية الوصول إلى اللذة، وهنا تنشا مصطلحات التسلع والتشيؤ؛ اذ يصبح الإنسان سلعة من السلع ،أو شيئا من الأشياء بلا روح ولا قيم .

العلمانية  في تركيا

لم يكن ما حدث لتركيا في مستهل القرن الماضي أمرا عاديا؛ فقد  مثل انتكاسة كونية لمشروع السيادة الإسلامية، وبداية لهيمنة غربية فكرية وثقافية وسياسية واقتصادية شملت الأمة الإسلامية برمتها.

ولا شك أن التحول الخطير الذي شهدته تركيا على يد الحركة الكمالية العلمانية قد اثر تأثيرا مباشرا على واقع الأمة الإسلامية، وسمح بانزلاقات خطيرة في تاريخ هذه الأمة، فما زالت الأمة تترنح تحت ضربات ذلك المد العلماني الخطير.

 ولا شك إن الفترة التي سبقت سقوط الخلافة الإسلامية كان لها أثرها البارز في هذا التحول الخطير؛ ذلك أن ضعف الدولة العثمانية، وخفوت سطوتها، وتفشي ظواهر الجهل والمحسوبية فيها،قد اثر تأثيرا بالغا في انهيار تلك الإمبراطورية، لكن شيئا آخر ربما كان له بالغ الأثر في هذا التحول، لم تتنبه له الدراسات، تمثل في اعتقاد  رجال الدولة العثمانية في عهدها الأخير بأن تخلف الدولة العثمانية يعود إلى عدم أخذهم بالنظم الغربية، في وقت سبقت فيه أوروبا البلاد الإسلامية  إلى التقدم التكنولوجي، وهذا يعني: أن بذور العلمانية لم تزرع في عهد أتاتورك، بل وجدت لها أرضا خصبة في زمن سابق، وذلك  عندما عمل العثمانيون في عهد السلطان عبدا لحميد الأول على  ترسيخ عهد التنظيمات، وذلك من خلال الاقتباس من الغرب في جميع النواحي  الثقافية والحضارية .([4])

ومن تلك البدايات العملية-أيضا- التي شكلت حامية للمشروع العلماني ما كان في عهد السلطان محمود الثاني الذي تولى الحكم في القرن الثامن عشر الميلادي، حيث قام بإنشاء جيش جديد على غرار الجيوش الأوروبية، واستبدل بالقوانين الإدارية قوانين جديدة على غرار القوانين الأوروبية، كما أصدر قوانين تتعلق باللباس وأجبر الموظفين والعسكريين على لبس الطربوش وحلق اللحية، وقد لاقت هذه التغييرات معارضة قوية من قبل الشعب حيث أطلق على السلطان لقب (السلطان الكافر(.

 لكن الحركة الكمالية في عهد أتاتورك عملت  على تطبيق النموذج العملي للمشروع العلماني، سعيا منها لطمس الهوية الإسلامية  التركية، وقطع علاقة تركيا بماضيها الإسلامي، وقد تمثل ذلك من خلال الخطوات العملية التالية :

1.                   إلغاء الخلافة الإسلامية

2.                   فصل الدين عن الدولة

3.                   الابتعاد عن تطبيع الشريعة الإسلامية فيما يختص بالأحوال الشخصية

4.                   إغلاق الزوايا والتكايا الموجودة بالدولة.

5.                   * إلغاء كل أنواع الطرق ومشايخها، وإلغاء ألقاب الدرويش والمريد والسيد والبابا والأمير والخليفة، والعرافة، وحظر السحر والتنجيم وكتابة التعاويذ والأحجبة والتمائم.

6.                   * حظر استعمال عناوين وصفات وأزياء تدل على الطرق الصوفية.

7.                   * إغلاق جميع المزارات وقبور السلاطين والأولياء ومشايخ الطرق.

8.                   * تشريع عقوبة الحبس مدة لا تقل عن ثلاثة أشهر لمن يخالف هذه المراسيم.

ولم تقف حدود التشريعات العلمانية عند هذا الحد بل تجاوزته إلى تفصيلات استفزازية حولت تركيا إلى ساحة حرب معلنة لكل ما هو إسلامي، حرب على الآذان وأخرى على الحجاب، وثالثة على اللباس وهكذا دواليك دواليك.

وفي سبيل فصل تركيا عن تراثها الإسلامية عملت الحركة الكمالية على إلغاء الحروف العربية وذلك بقرار صدر عام 1928.وبدأت نركيا الحديثة تتجه شمالا  مقلصة  حجم علاقاتها مع الجنوب  العربي   حتى انسلخت انسلاخا كليا  عن  محيطها العربي الإسلامي .

 تركيا بعد قرن من العلمانية

لا يمكن تناول الظاهرة الإسلامية التركية الحديثة دون الوقوف مليا مع أهم شخصية فكرية عبدت الطريق أمام الإسلام السياسي في تركيا العلمانية .

ولعل عام   1970 الذي أسس فيه البروفيسور (أربكان)  مع عدد من المفكرين والناشطين الإسلاميين  حزب النظام الوطني ، يعد أول محطة فاعلة في هذا التغيير الدرامتيكي لتركيا الحاضرة، مع العلم أن هذه التجربة وئدت بالمفهوم السياسي، حيث أقامت الحكومة دعوى ضد الحزب، فأصدرت محكمة أمن الدولة العليا قراراً بحلِّ حزب "النظام الوطني" ومصادرة أمواله وممتلكاته بعد أن جرَّمته بتهمة انتهاك الدستور العلماني

إلا أن هذه الخطوة شكلت بداية لتواصل مسيرة متتالية  بلغت ذروتها حينما تمكَّن حزب "الرفاه "- رغم مرور سنوات قليلة على تأسيسه- من الحصول على (185) مقعداً في الانتخابات النيابية التي جرت في شهر كانون الأول- ديسمبر من عام 1996، ليصبح الحزب الأكبر في البرلمان  التركي وعلى الساحة السياسية التركية.وبعد هذا الفوز الكاسح الذي حققه حزب "الرفاه" في الانتخابات، تسلَّم البروفيسور (أربكان)  في 8-6-1996م تكليفاً خطياً من رئيس الجمهورية التركية (سليمان ديميريل) لتشكيل حكومة جديدة يقودها الإسلاميون لأول مرة منذ الانقلاب الأتاتوركي، حيث شكَّل(أربكان) حكومة ائتلافية برئاسته،وبشراكةٍ مع حزب الطريق القويم بزعامة السيدة (تانسو شيلر).

 ومع أن هذه البصمة السياسية لتلك العقلية الجبارة لم تستطع أن تضع تركيا على سكة الإسلام ؛حيث أصدرت المحكمة الدستورية قراراً بحرمان (أربكان) من العمل السياسي مدى الحياة، بعد تأكيد محكمة التمييز لحكم محكمة أمن الدولة في ديار بكر.إلا أن هذا القرار كان بوابة لميلاد حزب العدالة والتنمية بزعامة( رجب طيِّب أردوغان) رئيس بلدية إسطنبول- سابقا-  وعبد الله غول- منافس قوطان على زعامة حزب الفضيلة في المؤتمر العام للحزب المنعقد في 14-5-2000-
وهذا الحزب هو من أكمل مسيرة (أربكان) ، وان كان قد غير في استراتيجياته الخطابية . إلا أن تجربته أثبتت نجاعتها، وحسمت عقودا من المد والجزر وجولات من الصراع المتكرر  بين الإسلام السياسي  والعلمانية.

إن الإستراتيجية السياسية التي حققت نجاحات بارزة في مشروع (اردوغان) قدمت هذه  التجربة باعتبارها انجازا ملفتا .

 ولعل النقلة النوعية في إستراتيجية الخطاب الإسلامي التركي الفاعل وسياستها الخارجية الجريئة تجاه قضايا أغفلها العرب، ونأوا بأنفسهم عنها  من نحو: القضية الفلسطينية، والموقف من الاحتلال الصهيوني/ والتدخل الأمريكي والثورات العربية قد جعل هذه التجربة حرية بالتناول.

 وتأتي أهمية هذا الملف لان الحاجة أصبحت ملحة للاستفادة من دروس الحركة الإسلامية التركية واخذ العبر اللازمة منها.

 وعند تناول منطق الاستجابة لتلك الظاهرة يتجلى على صفحة الواقع الإسلامي ثلاث رؤى متباينة تمثل ثلاثة اتجاهات فكرية تنتمي إلى ثلاث مدارس هي " الإخوان / السلفية / حزب التحرير "

وقد سمحت المقاربة الفكرية بين الإخوان والعدالة  لإنتاج نوع من التبني واعتبار النجاح التركي نوعا من النجاح المحسوب لصالح الحركة الإسلامية العالمية، ففي تعليق له، ربط علي صدر الدين البيانوني -المراقب العام لإخوان سوريا- بين مشروع العدالة والتنمية ومشروع جماعة الإخوان المسلمين التي أعلنت "قبولها التعددية والتداولية

والتشاركية، وقبولها الاحتكام إلى صناديق الاقتراع"، في أكثر من قطر عربي قدمت فيه برنامجها السياسي؛ وهو ما يعني -برأيه- أن استنساخ التجربة التركية "بروحيتها ممكن ومفيد، في كل من مصر وسوريا وغيرها من البلدان العربية .."([5])

لكن هذا التبشير من الإخوان لم يتوافق مع رؤية حزب التحرير الذي رأى في التجربة استنساخا جديدا للصورة العلمانية بواجهة إسلامية/ فحزب العدالة عندهم "حركة علمانية برتوش إسلامية تساهم في إبعاد الناس عن المشروع الإسلامي الأصيل"؛([6] )

أما الرأي السلفي فقد جاء وسطا بين الرؤيتين مع تخوف واضح من المستقبل "إذ يرون أنه يجب التفرقة بين "الفرحة لتنامي الصحوة الإسلامية" في تركيا، وبين ما اختلط بذلك من أمور غير شرعية "لا يجوز إلا بغضها والاعتراض عليها"

يقول الشيخ عبد المنعم الشحات - أحد رموز الدعوة السلفية في الإسكندرية- في مقالة بعنوان: (السلفيون ودخول الحجاب إلى القصر التركي:"معلوم أن الحكومات "الإسلامية "المختلفة التي حكمت تركيا بداية من حكومة "أربكان"، ومن جاء بعده التزمت باستخراج تصاريح البغاء للبغايا، بل إن إلغاء تحريم الزنا قد سنه البرلمان الذي يسيطر عليه حزب العدالة"، فهي تجربة ا إيجابيات كثيرة بنظر السلفيين، ولكن ذلك لم يمنعهم من أن يسجلوا تحفظاتهم الشرعية عليها .الأمر الأخذ على أيدي الفاسقين، وينسب هذا وذاك إلى الشرع ."( [7]).

               

[1] أبو داود في السنن 4/111 :دار الفكر ت محيي الدين عبد الحميد

[2] أنظر الدكتور عب الوهاب المسيري، العلمانية تحت المجهر،ص11، مكتبة الإسكندرية، القاهرة، 2000م.

[3] - العلمانية تحت المجهر،ص12

[4] نظر، هدى درويش  الإسلاميون وتركيا العلمانية، ص6،، الآفاق العربية، القاهرة، 1998.

[5] انظر  علي  عبد العال، تجربة الإسلاميين في تركيا،مركز الكاشف  للمتابعة والدراسات الإستراتيجية، ص7،، كانون أول،2010.

[6] - نفسه،ص8

[7] - نفسه،ص10.