ماذا تريد قناة الجزيرة من مصر

حسام مقلد *

[email protected]

لا ينكر أحد دور قناة الجزيرة البارز أثناء الثورة المصرية، فرغم التغطية المتواضعة نسبيا في بداية الاحتجاجات إلا أنه في اليوم الثاني أو الثالث من الثورة وقفت قناة الجزيرة قلبا وقالبا معها إلى النهاية، وسخرت كافة إمكاناتها الإعلامية وطاقاتها البشرية والفنية لنصرة الشعب المصري الثائر، واكتسبت بذلك ثقة جموع كبيرة من المصريين؛ إذ اعتبرها الكثيرون الذراع الإعلامية للثوار، والمرآة الموثوقة التي تعكس أكثر الصور موضوعية وأقربها إلى إظهار حقيقة ما يجري في ميدان التحرير وغيره من ميادين المدن المصرية؛ وبسبب تألق دورها في زمن الربيع العربي ارتبط الكثيرون وجدانيا بقناة الجزيرة، واعتبروها نصيرا للشعوب العربية الثائرة التي دخلت مواجهات مفتوحة مع أنظمتها الحاكمة بكل ما لديها من أدوات القمع والبطش والتنكيل، وما تمتلكه من آلات إعلامية جبارة وأبواق دعائية لا قبل للثوار بها، فكانت قناة الجزيرة حليفا قويا، وناصرا ومعينا، ورسولا أمينا نقل أصواتهم العالية لكافة أرجاء العالم.

وإعلاميا لا يجادل أحد في قوة وكفاءة وحرفية قناة الجزيرة ومهنيتها المتميزة؛ فقد نقلت الإعلام العربي الإخباري نقلة كبيرة وقفزت به قفزة إعلامية هائلة، ويصنفها عدد من الخبراء والمتخصصين ضمن المؤسسات الإعلامية العالمية الكبرى كـ (البي. بي. سيBBC ) و(السي. إن. إن CNN) وللإنصاف تعد قناة الجزيرة أكبر القنوات الفضائية الإخبارية العربية تأثيرا في المشاهد العربي، وهذا يلقي عليها مزيدا من المسئولية الأخلاقية والمهنية إزاء دورها في الحفاظ على الهوية، وصياغة الوعي، وتشكيل الكثير من ميول واتجاهات الأجيال العربية الجديدة من المتابعين لها، وإنها لأمانة كبيرة تتحملها هذه القناة أمام الله تعالى، ثم أمام التاريخ، وأمام الشعوب العربية التي منحتها ثقتها، واستأمنتها على الكثير من الجوانب الفكرية والسياسية والثقافية في شخصية أبنائها.

لكن من الناحية السياسية الصرفة ينبغي التأني قليلا في التعاطي مع أية وسيلة إعلامية مهما كانت فلا توجد وسيلة إعلام واحدة في العالم تعمل لوجه الله تعالى، بل كل وسائل الإعلام على وجه هذه البسيطة لها أهدافها وأجنداتها الخاصة، وأحمق أو ساذج من يتصور غير ذلك، وقد تتلاقى أهداف وسيلة الإعلام هذه أو تلك مع أهداف دولة أو جماعة أو حزب للتأثير في قطاع معين من الجمهور، وتشكيل ميوله وتوجهاته من خلال إشباع رغباته، وتلبية حاجاته، ودغدغة مشاعره، وبالتالي استدراجه رويدا رويدا لفضاءات أوسع وبأشكال متنوعة، والهدف الأهم من كل ذلك هو التأثير في قناعاته، وتشجيعه ودفعه إلى بناء أفكار معينة وتبنيها في الحياة، والدفاع عنها، ومحاولة بثها في الآخرين ونشرها على نطاق واسع، وهكذا وبالتدريج  تزداد مساحات التأثير والتأثر بين وسيلة الإعلام وبين المتلقين، وهو ما يُرى أثره بوضوح في المجتمع بعد سنوات معدودة، أو حتى بعد عدة عقود!

ومن نافلة القول: إن فضائية الجزيرة هي من أهم وسائل القوة الناعمة لدولة قطر الشقيقة، إن لم تكن أهمها على الإطلاق، وهذا لا يعيب قطر أو ينتقص من قدرها، بل هو شيء يذكر لها ويعد من مفاخرها، خاصة وأن القطريين قد أثبتوا عمليا أنهم شعب ذكي عرف كيف يبني دولة عصرية حديثة تهتم بالتخطيط والبحث العلمي، وتؤسس نهضتها ومشاريعها الحديثة على دعائم راسخة، وتصنع لنفسها مكانة مهمة في عالمنا المعاصر، وقطعا هناك ارتباط وثيق بين قطر الدولة وبين فضائية الجزيرة كقناة قطرية تعد أبرز أذرع قوتها الناعمة، على أنَّ ذلك لا يستدعي بالضرورة الخلط بين أهداف الدولة وأهداف القناة، ولا بين أداء الطرفين، وعلاقاتهما بالعالم الخارجي؛ إذ تبقى الدولة دولة والقناة قناة، وينبغي للدولة أن تسارع في كبح جماح القناة وإلزامها جادة الطريق إذا ما ظهر منها غير ذلك، ولن يجد أحد أي عناء ليكتشف أن قناة الجزيرة وكما أنها أهم أدوات بناء قوة قطر الناعمة في العالم، فيمكنها أن تكون ـ بسبب سوء التقدير أو سوء التخطيط أو ربما سوء القصد والنية...!!ـ معول هدم هذه القوة وأسرع أدوات تآكلها!!

وعلى الصعيد العربي فلا شك أن قطر قد أحرزت في الآونة الأخيرة مكاسب كبيرة، ونالت تقديرا عميقا وإعزازا فائقا لدى الكثير من العرب؛ بسبب مواقفها الداعمة بوضوح وقوة لثورات الشعوب العربية، وشعب مصر على وجه الخصوص شعب عريق أصيل، ولا يمكنه أبدا أن يتنكر لليد التي امتدت له بالخير، ولن ينسى المصريون موقف قناة الجزيرة القطرية المتميز أثناء الثورة المصرية، كما لن ينسوا أن قطر كانت صاحبة أول بيان رسمي يساند الشعب المصري، ويدعم إرادته الحرة، ويرحب بنجاح ثورته، ويعترف بها رسميا، والشعب المصري الوفي قد عبر أكثر من مرة عن شكره العميق لقطر أميرا وحكومة وشعبا لتأييدها ومؤازرتها للثورة المصرية، كما أعرب المصريون مرارا عن أجمل أمنياتهم للشعب القطري الشقيق بدوام التقدم والازدهار، وكلنا يتطلع إلى إقامة شراكة إستراتيجية عميقة بين مصر وقطر على أعلى المستويات.

غير أنه يجب علينا أن نتنبه كثيرا إلى أن دعم قطر للثورة المصرية لم يكن بعيدا عن مصالحها السياسية، ولم يكن كله حبا خالصا للشعب المصري، وهذا أمر طبيعي ومفهوم؛ فليس بخافٍ على أحد مقدار الجفاء والتنافر الذي كان بين قطر وبين نظام مبارك السابق، كما أن السياسة لا تعرف تحالفات مستمرة ولا خلافات دائمة، وفي منتصف الطريق قد يفترق الصديقان ويتبنى كل منهما ما يراه محققا لمصالحه الخاصة، ولعل المتابع لقنوات: (الجزيرة، والجزيرة مباشر مصر، والجزيرة  مباشر) يعروه شيء من الدهشة وهو يقارن بين موقف فضائية الجزيرة أثناء الثورة المصرية، وموقفها مما يجري في مصر الآن، وسوف يلمح شيئا من الجفوة غير المبررة بين الجزيرة وبين المجلس العسكري الحاكم في مصر!!

وقد لاحظ كثيرون تغير نوايا فضائية الجزيرة تجاه مصر وثورتها، واتهمها البعض بأنها إنما وقفت في البداية مع الثورة المصرية نكاية في مبارك ونظامه، لكن الوضع اختلف الآن بعد انهيار هذا النظام، وقطر في النهاية تبحث عن مصالحها، ولن يسعدها كثيرا تعافي الليث المصري ونهوضه من جديد، وأنا شخصيا ممن لا يحبون التفكير بهذه الطريقة، ولا تستهويهم نظرية المؤامرة إلى هذا الحد، لكن هناك   كثيرون وصل بهم الأمر لدرجة وجود قناعة راسخة لديهم بأن قناة الجزيرة تعمل حاليا ضد مصر وضد استقرارها، ويستشهدون بكثير من الأدلة كان آخرها قول وزير العدل المصري (الوزير الحالي في حكومة الثورة): "إن دولا محيطة بمصر تعمل على إسقاطها، وأنها في سبيل تحقيق ذلك قامت بتحويل أموال هائلة إلى مصر تقدر بملايين الجنيهات، وسلمتها لبعض الجمعيات الحقوقية ومنظمات المجتمع المدني".

وذكر وزير العدل المصري صراحة: أن دولة خليجية قد دفعت أكثر من (180) مليون جنيه لتمويل بعض جمعيات ومنظمات المجتمع المدني، وأخطر من ذلك أنه تحدث بوضوح تام وثقة كبيرة عن مخطط تخريبي يجري تمويله بهذه الأموال الطائلة لإسقاط مصر، وتلوك ألسنة بعض الناس كلاما مزعجا يتحدث عن دور نافذ تلعبه قطر على الساحة المصرية حاليا ـ مع غيرها من اللاعبين العرب والدوليين ـ والأخطر هو حديث أطراف في الحكومة المصرية عن وجود معلومات ومؤشرات قوية تفيد بتورط قطر ـ مع غيرها من الأيادي الداخلية والخارجية ـ في تجنيد بعض العناصر داخل مصر للعبث بأمن واستقرار الشارع المصري، وإثارته بهدف تخريب بعض المنشآت العامة ومؤسسات الدولة، وانتهاك الأمن القومي لمصر وترويع المواطنين وإثارة فزعهم لإحداث الفوضى، ولعل هذا هو السر في وجود حالة من الاستياء والغضب داخل بعض أروقة الحكومة المصرية الحالية نحو المواقف القطرية الأخيرة إن صحت.

وفي الحقيقة نحن ضد القرصنة الأمنية لوسائل الإعلام أيا كانت؛ فهذا ضد الحرية والديمقراطية التي نسعى إليها، ولن يسمح الشعب المصري أبدا بإعادة عقارب الساعة إلى الوراء، فهو لا يريد مطلقا استنساخ نموذج آخر لنظام مبارك البائد، ولا يرغب في إعادة إنتاجه مجددا بأي شكل من الأشكال، ونرفض تماما أسلوبه في إدارة الأزمات وإلقائه التهم على الآخرين دون مستند أو دليل، لكن لا ريب أن هناك أنظمة عربية تخشى أن يقع فيها ما حدث في مصر، ولا ريب كذلك في أن أعداء مصر لا يريدون لها أن تنهض من كبوتها وتستعيد عافيتها، ولا أن تستفيق من نومتها التي طالت، ويسعى الكثيرون لإضعاف مصر وإطالة فترة خضوعها واستكانتها واستسلامها، ويحاولون إعاقة مسيرتها وإجهاض ثورتها بكل السبل، ولم يكن أحد يتوقع أبدا أن تأتينا الضربة من قطر، لكن الحكومة المصرية الحالية تقول إن لديها وثائق وأدلة دامغة تؤكد تورط دولٍ بعينها ـ من بينها قطر ـ وتدخُّلَها في الشأن الداخلي المصري، وتمويلها لعمليات تهدف إلى زعزعة الاستقرار في مصر لإجهاض ثورتها، كما تزعم بعض المعلومات أن قطر رفضت طلباً من الإنتربول بتسليم كل من: (رشيد محمد رشيد) و(يوسف بطرس غالي) الوزيرين السابقين في نظام مبارك، وإذا كانت هذه المعلومات صحيحة وموثقة ومؤكدة وهدفها "إسقاط مصر" كما يشاع فما هو رد قطر على هذه التهم الواضحة؟ وما موقف الجزيرة من ذلك؟ ولِمَ لا تفند هذه المزاعم مباشرة وبكل وضوح وشفافية، بدلا من الضرب تحت الحزام، وشن حملات التشنيع على الحكومة المصرية، والهجوم على قراراتها الأخيرة المتعلقة بقناة الجزيرة مباشر مصر، وغيرها من القرارات المشابهة التي ندينها ولا نتفق معها؛ لأنها ضد الحرية الحقيقية التي نسعى إليها؟!

وفي الواقع لو تابعنا بشكل علمي ومنهجي أسلوب تعاطي قناة الجزيرة الفضائية(وخاصة فرعها: الجزيرة مباشر مصر) للشأن المصري بعد الثورة لتوصلنا فعلا إلى بيانات تحليلية علمية تدعم حالة الريبة والشكوك التي تنتاب البعض بخصوص موقف قناة الجزيرة الحالي من الثورة المصرية، ولنلقِ نظرة فاحصة على برامج قناة الجزيرة مباشر مصر، ولنقم بتحليل بسيط لمحتوى ومضمون المادة الإعلامية التي تقدمها، ولنراجع موضوعاتها وبرامجها وعناوينها وضيوفها وحواراتها، ولغة صياغة الأسئلة وطريقة ونبرة إدارة النقاش، بل حتى شريط أخبارها ورسائلها الذي يظهر أسفل الشاشة، وعندئذ سندرك على الفور أن هناك خطة محكمة لاستغلال الأوضاع الحالية في مصر، وإثارة الجماهير والتشكيك في نجاعة قرارات الحكومة والمجلس العسكري، والعمل على زيادة الاستقطاب بين الإسلاميين والليبراليين، والميل لدعم الطرف الثاني، وتعقب أخبار محلية بسيطة جدا تجري أحداثها في بعض النجوع والقرى والمدن الصغيرة، وتضخيمها وبثها، والإكثار منها، ومع الإلحاح والتكرار يظن المشاهد البعيد عن الواقع أن الأوضاع في مصر في منتهى السوء، وأن مصر لن تعرف الاستقرار سريعا، بل ربما تكون على وشك السقوط في أتون الفوضى العارمة، أو الوقوع في قبضة حكومة أصولية متطرفة!!

وللإنصاف فالجزيرة لا تصنع الحدث ولا تفبرك الخبر، لكن طريقة تقديم الخبر وأساليب صياغته وطرق التعامل معه من تحليل ومناقشة ومناظرة، والإلحاح عليه بأكثر من طريقة يرسم له أبعادا أوسع ويضعه في حجم أكبر بكثير من حجمه الطبيعي، ومعلوم أن قناة الجزيرة ليست اللاعب الإعلامي الوحيد في الساحة المصرية، لكنها بثقلها ورصيدها الكبير من المصداقية لدى المشاهد العربي ترسم مع غيرها من القنوات صورة مشوهة لما يحدث في مصر، فتبالغ أحيانا في رصد الحدث ونقل الخبر وتحليله، وتضخم أحيانا من بعض السلبيات، وتنصر فئة على فئة، وتثير جماعة ضد أخرى، وتعين ائتلافا على غيره من الإتلافات، وهذا الأسلوب ولا شك يمزق الصفوف ويثير البلبلة ويبعثر الجهود، ويشتت القوى، والمحصلة النهائية هي فقدان البوصلة وتنامي الصراعات، وإضعاف الوطن والأمة وسقوطنا جميعا في أتون الفوضى، ووقوعنا في براثن التشرذم والانهيار والضياع.

إن الكثيرين من أبناء العالم العربي شعروا بعظيم الشكر ووافر الامتنان لقطر بسبب مسارعتها لدعم أشقائها العرب، وظن الكثيرون بها خيرا واعتبروا أن مواقفها المختلفة تنطلق من مبادئ راسخة تعلو على فكرة التحالفات والتجاذبات السياسية، وأنها تساند أشقاءها وتقف بجانبهم وقت الحاجة بدافع المروءة والشهامة، وانطلاقا من رؤية عروبية أصيلة، بغض النظر عن المصالح السياسية البرجماتية المتغيرة، ومحزن جدا أن يصاب الناس بخيبة الأمل، ومؤسف حقا أن نجد أنفسنا نفكر بمنطق ملوك الطوائف فتظن كل طائفة (أو حزب أو دولة...!!) أن نهضتها لن تكون إلا على حساب انهيار أخواتها، وأن قوتها لن تتأتى إلا من خلال إضعاف الآخرين والقضاء على عوامل قوتهم!!

كلا، كلا!! بل ينبغي لنا أن نفكر بمنطق الأشقاء الكبار الحكماء المخلصين المحبين الذين يرون قوة إخوانهم قوة لهم جميعا، وعزة ومنعة، ورهبة في قلوب أعداء أمتنا، وبإمكان قناة الجزيرة أن تحفظ مكانتها في قلوب العرب جميعا، وأن تكتسب ثقتهم مجددا، وتستغل حرفيتها ومهنيتها العالية في مد جسور الثقة والمحبة والتعاون بين مختلف الشعوب العربية، وينبغي لها أن تقف على نفس المسافة من كافة الأحزاب والقوى السياسية في مصر والعالم العربي، وتتوخى الصدق وتتحراه دائما، وتدعم الحق والعدل، وتقف إلى جوار المصالح الوطنية الحقيقية لكل دولة، وتساندها بكل قوة؛ فهي عينها المصالح العليا لقطر ولأمتها العربية!!

                

 * كاتب إسلامي مصري