إسرائيل تفتقر إلى نظرة إستراتيجية!

ياوز نظمي آجار

ادعت صحيفة نيويورك تايمز الأمريكية أنها حصلت على نتائج تحقيق الأمم المتحدة، حول الاعتداء الإسرائيلي الغاشم على سفينة مرمرة الزرقاء التركية، الذي تمخض عن استشهاد 9 من النشطاء الأتراك، ونشرت أمس الجمعة مقتطفات مما ينطوي عليه التقرير.

واللافت أن الصحيفة حصلت (!) على التقرير قبل أن يُعرض على الأمين العام للأمم المتحدة "بان كي مون"، ويُنشره رسمياً، الأمر الذي فاجأ "مون" أيضاً. وأظنّ أن عدم معرفة الأمين العام بأمر تسريب التقرير للإعلام يعطينا فكرة عن هوية من يديرون تلك الحرب النفسية!

ترى ما هدف هذه الولادة المبكرة، أي نشر نتائج التقرير قبل الإعلان عنه رسمياً؟

لنستمع إلى وزير الخارجية التركي أحمد داود أوغلو ليتولى الإجابة عنا على السؤال المطروح، حيث قال في المؤتمر الصحفي الذي عقده أمس الجمعة إن "تسريب التقرير إلى بعض الصحف يترك في الرأي العام انطباعاً بأنه يستهدف توجيه أطراف القضية، إضافةً إلى الأطراف المعنية بالموضوع".

يبدو أن إسرائل أرادت بـ"الولادة المبكرة" أن تتفاجأ أطراف القضية وترتبك حتى تضطرّ لارتكاب أخطاء بشأن التقرير عن قضية الاعتداء الغاشم.

ملخص التقرير المولود مبكراً:

وبحسب مضمون التقرير المسرّب فإنه تفضل (!) على الأتراك بتشديده على "أن القوات البحرية الإسرائيلية قد استخدمت "قوة مفرطة" أثناء عملية الاقتحام، وذلك دون تحذير مسبق وبشكل غير منطقي"، كما دعا إسرائيل لإصدار بيان مناسب تعرب فيه عن أسفها مما حدث، "موصياً" إياها بدفع تعويضات لأسر المستشهدين الأتراك التسعة والجرحى (تكرماً منها!).

ثم يعود التقرير ليراعي المعادلات بين الطرفين، رغم الدوس على المبادئ التي تتبناها الأمم المتحدة، حيث يبرر الحصار البحري الإسرائيلي المفروض على قطاع غزة بأنه "تدبير أمني شرعي"، تتخذه السلطات الإسرائيلية للحيلولة دون نقل أسلحة إلى الطرف الفلسطيني عبر البحر.

هذا هو عمق نظر تقرير الأمم المتحدة!

هل هناك من لآلئ أخرى في التقرير المولود مبكاراً؟

نعم، وزيادة، إذ يحدد أعضاء التقرير، وذلك بعد البحث والتدقيق الغائرين (!)، أن القوات البحرية الإسرائيلية واجهت "مقاومة عنيفة ومنظمة" أثناء الحادث من قبل أعضاء أسطول الحرية المؤلف من ست سفن، بينها مرمرة الزرقاء التي كانت ترفع علماً تركيا، ثم ينعت محاولة أسطول الحرية لكسر الحصار الجائر المضروب على أهل غزة بـ"تصرف متهور غير مسؤول".

ثم يتخذ التقرير طور الشيخ الحكيم (!) الذي يريد أن يصالح بين الجانبين المتنازعين، فيطالب كلاً من الطرفين التركي والإسرائيلي باستئناف علاقاتهما الدبلوماسية وإصلاح العلاقات المتدهورة بين البلدين، وذلك من أجل مصلحة الاستقرار في الشرق الأوسط.

يا له من تقرير! كم أخذ ذلك التقرير العميق من وقتكم الثمين، يا أيها الأعضاء الموقرون المتمتعون بحكمة الشيوخ، للوساطة بين الشابين الثائرين المنفلتين الذين لا يذعنان إلا لعواطفهما بدلاً من عقولهما؟! أكثر من عام! يا له من خسارة!

هل وصلت كرة الحرب النفسية التي ألقاها الفريق الإسرائيلي إلى مرمى الفريق التركي؟

أ فاجأ التقرير الرئيسَ التركي عبد الله جول، ورئيس الوزراء رجب طيب أردوغان، ووزير الخارجية أحمد داود أوغلو، أم أنهم كانوا مستعدين لجميع الاحتمالات؟

كان رد فعل عبد الله جول عنيفاً جداً بحيث قد تكون إسرائل لم تتوقع ذلك. وقد يكون في الجانب الإسرائيلي من يرى موقف الحكومة التركية وأقوال أردوغان المعارضة للمواقف الإسرائيلية "عاطفياً" مؤقتاً كغيمة صيف عابرة للحصول على دعم شعبه، ولكن التصريحات التي أدلى بها الرئيس التركي، أمس الجمعة أيضاً، تدل على أن الموقف التركي إزاء إسرائيل ليس أمراً متعلقاً بالحكومة فحسب، وإنما هو موقف مشترك اتخذته الجمهورية التركية كدولة. حيث أظهر الرئيس التركي رد فعله لتقرير الأمم المتحدة بقوله الصارم: "من غير الممكن قبوله، فهو في حكم المعدوم بالنسبة لنا".

واللافت أن تركيا، على مستوى الرئاسة والحكومة وحتى الشعب، يتخذ موقفاً مبدئياً تجاه القضية بتحميل المسؤولية على عاتق الحكومة الإسرائيلية فقط، والتمييز بينها وبين الشعب الإسرائيلي. إذ أكد الرئيس التركي أن مصير العلاقات التركية ـ الإسرائيلية يتوقف على تصرفات تل أبيب المستقبلية، مشدداً على "أن الحكومة الإسرائيلية الحالية تشكل عبئاً ثقيلاً حتى على الشعب الإسرائيلي، حيث تعاني من غياب النظرة الإستراتيجية التي هي في أمسّ الحاجة إليها لقراءة ما يجري حولها من تطورات، خاصة التطورات الأخيرة في دول الشرق الأوسط بشكل صحيح واستخلاص العبر الكامنة فيها".

وبيت القصيد في تصريحات جول هو تلك الإشارة إلى دور تركيا في المنطقة "أن تركيا لن تدخر بوسعها في الحفاظ، ليس فقط على حقوقها الذاتية، وإنما على حقوق جميع  المظلومين أيضاً، باعتبارها أقوى دولة في المنطقة، وعلى المجتمع الدولي أن يعرف ذلك جيداً".

ولكي لا يذهب بنا الظن إلى تصور خاطئ عن دور تركيا المذكور يضيف الرئيس التركي ليسدّ الباب أمام المغرضين بقوله: "تركيا لا تجري وراء أي شيء آخر سوى السلام والاستقرار في المنطقة، ولكن هناك خطوات يتوجب على إسرائيل أن تلقيها من أجل منطقة يسود فيها الأمن والسلام، وإن لا تتمع إسرائيل بالقدرة الكافية على وعي موقفنا الجادّ فعلى حلفائها ـ على الأقلّ ـ ومن يقف إلى جانبها التحدث معها بشكل تعي وتدرك أبعاد ما نقول".

ما هو الإجراءات التي ستتخذها تركيا في المرحلة الراهنة:

أعلن داود أوغلو أمس الجمعة أن تركيا ستتخذ عدة إجراءات ضد إسرائيل حتى تلبِّي المطالب التركية المتمثلة في تقديم اعتذار رسمي، ودفع تعويضات مالية لأسر المستشهدين والجرحى والمتضررين جراء عملية الاقتحام، ورفع الحصار المضروب على غزة، وملخص هذه العقوبات كما يلي:

تعليق جميع الاتفاقيات العسكرية المبرمة مع إسرائيل، التي تقدر بمئات الملايين من الدولار.

سحب السفير التركي لدى إسرائيل وتخفيض التمثيل الدبلوماسي في العلاقات الثنائية إلى مستوى السكرتير الثاني.

مغادرة السفير الإسرائيلي البلاد حتى يوم الأربعاء المقبل كحد أقصى.

اتخاذ جميع التدابير الأمنية لضمان حرية الملاحة البحرية في شرق البحر الأبيض المتوسط عند اللزوم والضرورة، وذلك لكون تركيا صاحبة أطول شريط ساحلي.

عدم الاعتراف بالحصار "غير الشرعي" المفروض على غزة من قبل إسرائيل، والسعي لحمل القضية إلى محكمة العدل الدولية.

تقديم كافة أنواع الدعم الفني والمادي لعوائل ضحايا الحادث والجرحى والمتضررين جراء الاعتداء الاسرائيلي لفتح دعاوى في محاكم ومحافل دولية ضد الحكومة الإسرائيلية والمسؤولين المعنيين من السياسيين والعسكريين.

غير أن الرئيس التركي جول ذكّر بأن الإجراءات المذكورة ليست الخطوة الأخيرة في هذا المجال، وإنما هي بداية الخطوات التي ستلقيها تركيا حتى تتراجع إسرائيل عن موقفها المرفوض.

يا ترى من هو الذي سيتضرر أكثر من هذه المرحلة؟

أعتقد أن أهم نتيجة ستتمخض عن هذه المرحلة، التي كادت أن تنقطع فيها جميع العلاقات بين الجانبين التركي والإسرائيلي تماماً، هي تزايد عزلة إسرائيل في المنطقة. كما تتوقع مصادر دبلوماسية أن تتزايد عزلة إسرائيل على الصعيد الدولي أيضاً، بعد أن فقدت تركيا أقرب صديق لها حتى الفترة القريبة. إذ من المؤكد أن تركيا، التي أصبحت كلمتها مسموعة في العالم أجمع، بدءاً من الولايات المتحدة الأمريكية وانتهاءً إلى دول القرن الأفريقي والشرق الأوسط، ستلقي خطوات على الصعيد الدولي ولدى دول العالم الثالث، من شأنها أن توقع إسرائيل في مشاكل كبيرة. 

لا شك أن مصر هي الدولة الأخرى التي تنطوي على أهمية خطيرة في المنطقة. وقد أقلق سقوطُ الرئيس السابق حسني مبارك إسرائلَ إلى حد بعيد. إذ أبدت مصر رد فعل عنيف لإسرائيل في الشهر السابق لما قتلت الأخيرة 5 من الحراس المصريين في الحدود، تبعه إعراب إسرائيل عن بالغ أسفها على نحو سريع. ولكن لم تهدأ حدة مصر إلا بعد ما اقترحت تل أبيب على القاهرة التعاون في تحقيق القضية.

غير أن الشعب المصري، الذي أطاح برئيس النظام السابق، يلحّ على مغادرة السفير الإسرائيلي البلاد فوراً، إلى جانب إلغاء "اتفاقية كامب ديفيد" التي هي بمثابة "صمام الأمان" بالنسبة لإسرائيل.

ومن المؤكد أن الحكومة المصرية الديمقراطية الأولى التي ستأتي إلى سدة الحكم في البلاد بعد إجراء الانتخابات التشريعية آخر تشرين الثاني/نوفمبر لن تتعامل مع إسرائيل كما تعامل معها النظام السابق، ولن تتبع سياسات استسلامية لإسرائيل كما كان في الماضي.

فضلاً عن ذلك، فإن احتمال سقوط نظام الأسد في سوريا على نحوٍ مماثل لما حدث في مصر، والخطوات التي ستلقيها مصر وسوريا المتحررتان من قيود نظاميهما السابقين يحطم أحلام إسرائيل. 

أما الولايات المتحدة الأمريكية؛ أكبر دولة داعمة لإسرائل في العالم، فإلى متى ستحمل "العبء الثقيل إسرائيل" على ظهرها، وهي بدأت تنسحب من الشرق الأوسط فعلاً.

يا ترى من بقي لإسرائل؟

لا تنتظر إسرائيل سوى عزلة غير مسبوقة!

أليس الأمر كما وصف الرئيس التركي عبد الله جول:

"الحكومة الإسرائيلية الحالية عبء ثقيل حتى على الشعب الإسرائيلي، وهي تفتقر إلى نظرة إستراتيجية لما يحدث في الشرق الأوسط، أو ما يسمى بالربيع العربي".

إن إسرائيل ارتكبت سلسلة من الأخطاء تمخض عنه ـ كما أكد داود أوغلو ـ فقدانها تركيا، وبقائها وحيدة بين الرياح العاصفة للربيع العربي. ولا شك أن كلاً من انتهاء الصداقة التركية ـ الإسرائيلية والعزلة العميقة التي ستذوق آلامها أكثر مما سبق خلال الأيام والشهور القابلة، سؤثر بشكل سلبي على تل أبيب أكثر من تأثيرها على أنقرة. 

إذن ألم يأنِ لإسرائيل أن تحدّ من غطرستها وتدللها، وتعود إلى صوابها، وتتراجع عن اعتبار نفسها غير مسؤولة مهما ارتبكت من جرائم. وإن كانت الحكومة القائمة مجردة ومحرومة من الحكمة والحنكة فأين الشعب الإسرائيلي، وحلفاؤها في العالم؟

وأخيراً أظن أن المفتاح أو الحلّ الأمثل لتلك الأزمة المستفحلة بين تركيا وإسرائيل بيد الشعب الإسرائيلي أولاً، وحلفاء إسرائيل الغربيين، وفي طليعتها الولايات المتحدة الأمريكية ثانياً، كما لفت إلى ذلك الرئيس التركي جول، وليس الحكومة الإسرائياية القائمة.