لماذا يرفضون الحرية؟
أ.د. حلمي محمد القاعود
[email protected]
في 30من سبتمبر 2010م – أي قبل سقوط النظام الفاسد البائد بأربعة شهور تقريبا - وقف أحد عشر كوكبا من رموز حظيرة الثقافة ، بين يدي رئيس النظام المخلوع ، وقدموا قرابين الولاء والطاعة ، وانحنوا جميعا في مشهد من المشاهد التاريخية المثيرة ، ابتهاجا بالاستعداد لمرحلة رئاسية جديدة ،أو توريث الابن الذي كان يستعد لملء الفراغ بعد استراحة أبيه!
الأحد عشر كوكبا ، من مثقفي الحظيرة ، كان أضعافهم في خارج المشهد التاريخي يتمنون أن يكونوا داخل الصورة ، وقيل إن بعضهم كان مريضا ، وبعضهم الآخر وصلته الدعوة متأخرة ، وبعضهم الأخير لم يتمكن من الحضور لسبب ما ، ولكن أغلبية ساحقة كانت تنتظر الدعوة ، والمثول بين يدي فخامة الرئيس الذي يمنح ويمنع !
المفارقة أن الأحد عشر كوكبا ما زالوا يحتكرون الساحة الثقافية ، يقولون ويكتبون ، وينظّرون ويقعّدون ، ويخطّطون للمستقبل والثورة والشعب المصري ، وفي الوقت ذاته يقودون الحظيرة ، وأعضاءها إلى منعطف خطير يفرغ الثورة من أهم أهدافها وهو حرية الشعب المصري ، ومشاركته في حكم نفسه بمفهوم الاختيار الشعبي ، وتبادل السلطة بالمفهوم الديمقراطي ، والمحافظة على هوية الأمة واستقلالها ، والتعامل مع الآخرين من منطلق الندية والمساواة والاعتزاز بالنفس ..
الأحد عشر كوكبا وأشباههم ما زالوا يملأون الساحة ضجيجا ، ولكن بمنطق النظام البائد : يرفعون الفزاعة الإسلامية ، ويطلبون إرجاء تسليم الحكم إلى المدنيين ، وتأخير الانتخابات النيابية ، ويتكلمون عن مبادئ فوق الدستور ، أو مبادئ حاكمة للدستور لتجريد مصر من إسلامها وهويتها ، ويقودون الأقليات النخبوية والطائفية في حملات التشهير بالإسلام ، واستباحة القوات المسلحة ووضع التحرير في مواجهة المشير ، وتأييد التصرفات الرعناء في تعطيل مصالح الجمهور ، والتهديد بإغلاق قناة
السويس ، ووقف خطوط المترو ، وتشكيل لجان الانتقام من قتلة الثوار ، والسؤال هو : هل يمكن أن يكون ثائرا من كان ينحني أمام إلهه الذي سقط ؟ وهل يمكن أن يكون ممثل الأقلية النخبوية والطائفية صاحب القول الفصل في الحكم على الأغلبية الساحقة ؟ وهل يتيح استيطان الصحافة والقنوات الفضائية والإذاعات والندوات واللقاءات والمخططات التي يحركها رجال المال الحرام أن تفرض هذه الأقلية إرادتها مهما اشتطت وغلت وظلمت ؟
إن الولايات المتحدة والغرب الاستعماري والكيان الصهيوني الغاصب في فلسطين المحتلة ، وبعض الحكام العرب المستبدين ، يرفضون الحرية للشعوب العربية والإسلامية ، ولا يوافقون على الديمقراطية في بلاد العرب والمسلمين ، ولا يمكن أن يدعموا الديمقراطية فيها أبدا . وما ينفقونه لدعم الديمقراطية ، هو إنفاق لدعم العملاء والأبواق والسماسرة الذين يدافعون عن سياستهم الإجرامية ، ونهبهم ثروات الشعوب العربية وإذلال مواطنيها وقهرهم واستباحتهم، وتغيير هويتهم ..
لقد كانت التجارب الديمقراطية الناجحة في البلاد العربية محط هجوم سافر من هؤلاء الذين يتغنون بالديمقراطية ودعمها كلاما ودعاية فقط ، وقد رأينا تجارب ديمقراطية حقيقية تتعرض على أيديهم للتخريب والعدوان . في لبنان ، يتعرض اللبنانيون على مدار الساعة لإذكاء روح الطائفية ، وتحريض الطوائف ضد بعضها ، وتحويل الديمقراطية إلى لعنة بدلا من أن تكون نعمة . وفي الجزائر بعد أن فازت جبهة الإنقاذ الإسلامية بأغلبية المقاعد حركوا حزب فرنسا بقيادة الجيش لذبح الجزائريين ، وإلغاء
الديمقراطية جهارا نهارا ، وفقد الشعب الجزائري قرابة ربع مليون قتيل ، وأكثر من مليون جريح ومفقود ، ومازال الجزائريون حتى اليوم يدفعون ثمن اختيارهم الديمقراطي للإسلاميين ؛ قلقا سياسيا واضطرابا اجتماعيا وخللا اقتصاديا .وفي فلسطين ( الضفة والقطاع ) دفع الفلسطينيون ومازالوا ثمنا غاليا لاختيارهم الديمقراطي وانتخاب منظمة حماس الإسلامية ، لدرجة شن الحرب على قطاع غزة وتدميره ومحاصرته حتى اليوم ومنع المصالحة الفلسطينية .
قوى الشر التي تتكون من الولايات المتحدة والغرب الاستعماري والكيان الصهيوني الغاصب والحكام العرب الطغاة لا تسمح بالحرية ، ولا تقبل بالديمقراطية ، ولذا يسعون عن طريق الأقلية النخبوية والطائفية إلى تخريب الثورة المصرية ، وحرمان الشعب من الحرية ، وإطالة أمد الفوضى ، وقد اعترفت السفيرة الأميركية آن باترسون أن حكومتها أنفقت أربعين مليون دولار على ما يسمى منظمات المجتمع المدني في مصر التي تضم الجمعيات الأهلية ومراكز الدراسات والأبحاث وما شاكلها بحجة دعم
الديمقراطية !
والدعم المقصود هو رفض الهوية الوطنية القومية لمصر ، ومنع الأغلبية الإسلامية من المشاركة في الحكم ، والإبقاء على النظام الاستثنائي الذي يحكم مصر منذ ستة عقود قائما ، تسانده الطوارئ والاستبداد والفساد والهزيمة المنكرة في المجالات المختلفة سياسيا واقتصاديا وعلميا وثقافيا واجتماعيا وإنسانيا .
ما معنى أن تنشر بعض الصحف أنه تم جمع مائتي ألف توقيع يطالب أصحابها باستمرار المجلس العسكري في الحكم حتى تتحقق أمانيهم ويستعدوا للحصول على الأغلبية والوصول إلى غايتهم العظمي ؟
سألني بعض الناس : هل يمكن إعادة إنتاج أحداث المنشية عام 1954م التي أطاحت بالدستور والأحزاب والتجمعات السياسية والأهلية ، واستباحت الحريات ورسخت للديكتاتورية والطغيان ، وسمحت بامتهان فقهاء القانون وتعليق الأبرياء على المشانق ، وتغييب الآلاف وراء السجون ؟
قلت لمن سألني : كل شيء جائز وممكن ومحتمل ، ولكن الفارق اليوم أن الجيش المصري الآن جيش محترم ومحترف يعرف واجبه جيدا ، ويعلم أن مهمته حماية الوطن وليس الجلوس على عرش البلاد كما فعل من هزموا البلاد وأذلوا العباد بعد عام 1952م ، ولذا لم يستجب لنداء الطاغية بفض الثورة ، وأعلن أنه لن يطلق رصاصة ضد المواطنين ، ولن يقف ضد رغبتهم في الإعلان عن آرائهم ورغباتهم ، وأنه حين نزل الشارع فقد كان ذلك لحمايتهم وتأمين المؤسسات القومية والحكومية والإنتاجية والعامة .. ثم إن
إعادة إنتاج أحداث المنشية عام 1954م ، ستكون مكلفة وتبعاتها ستكون أخطر وأعظم ، لأن الشعب الذي خرج بالملايين على مدى ثمانية عشر يوما ، وأسقط الخوف لن يفرط في حريته مرة أخرى مهما كان الثمن .
إن تحركات الأقليات النخبوية والطائفية لفرض إرادتها على الشعب كله ، ستنتهي في يوم ما ، مهما رفعت من شعارات مضلله ، وأفكار خبيثة ، ومطالب حق يراد بها باطل ، ومهما تسلحت بقنوات فضائية يملكها الفساد الذي لم يحاسب بعد ويخشى الحساب والقانون والعدالة ..
إن احترام إرادة الشعب والوصول إلى انتخابات تشريعية حقيقية نزيهة وشفافة ، وصياغة دستور جديد ، وإرساء نظام برلماني دستوري ، وتقليص صلاحيات رئيس الدولة في ظل سلطات ثلاث قوية ومستقلة ، تخضع لحساب الشعب ورقابته ، سيؤدي في النهاية إلى قيام نظام ديمقراطي حر ، تتوهج فيه كرامة المواطن بالحرية والعدل والمساواة ، والعمل والإنتاج والإبداع ..
إن الديمقراطية الحقيقة ستعصف بالأحزاب الكرتونية التي صنعت على عين جهاز السافاك ( أمن الدولة ) وتحت رعايته ، وستبقي على الأحزاب الحقيقية التي لها قواعد شعبية حقيقية تؤمن بالمبادئ والقيم التي قامت عليها ، وليس تلك الأحزاب التي يتصارع قادتها على المناصب والولاء للأجهزة الخفية والأجندات الغامضة .. ولن نجد أحزابا تكون مهمتها محاربة الهوية الوطنية القومية ، والعمل على تجريد مصر من إسلامها وقيمها وتراثها ، لحساب من يعملون على تمزيق الوطن ، وتفتيته ، و تسليمه
للفوضى في أفضل الأحوال.
علينا أن نلحق بالتجارب المحترمة في العالم الإسلامي ، ونتجه مثلها للبناء والتعمير والإنتاج واحترام كرامة الإنسان . أمامنا ثلاث تجارب على الأقل في العالم الإسلامي توافقت على الحرية والديمقراطية ،وتقدم نموذجا حيا لمن يرفضون الحرية والديمقراطية من الأقليات النخبوية والطائفية التي ترى في الإسلام عدوا لها وعائقا .. إن تجارب السنغال وماليزيا وتركيا على تفاوت مستوياتها تقدم صورة للتوافق الإيجابي في تبادل السلطة والديمقراطية وسيادة القانون ، فضلا عن الاستقرار والعمل
والإنتاج.
أما ما يريده بعض ذوي الأصوات العالية وسكان الفضائيات الليلية ، فهو الفوضى بعينها ، لأنهم يسيرون في الاتجاه المعاكس لإرادة الشعب وعقيدته ومستقبله ، ولذا يرفضهم الناس حين يتكلمون ، وحين ينظّرون ويخطّطون ، وحين يدّعون أنهم يملكون الحقيقة المطلقة ويرفضون الحرية في ظل الدعم الحرام من رجال المال الحرام !
مصر التي عانت طويلا ستحزم أمرها بإذن الله وتواجه الفوضى والأنانية والدعم الأميركي المزيف للديمقراطية ، وستصنع ديمقراطيتها وحريتها ونظامها العادل الذي يبسط جناحه على الأغلبية والأقلية جميعا .