المِحَن والمنافقون .. مواسم التكاثر الشيطاني
المِحَن والمنافقون..
مواسم التكاثر الشيطاني
محمد عبد الكريم النعيمي - المدينة المنورة
كانت غزوة الأحزاب (الخندق) من أعظم الحوادث التي محّصت الصفّ الإسلامي في عصر النبوّة، وما ذلك إلا لِعِظَم المحنة التي شكلتها تلك الغزوة، فقد اجتمعت قريش وحلفاؤها من المشركين ويهودِ خيبر في عشرة آلاف مقاتل، لتحاصر المدينة التي لا يتعدى عدد مقاتليها ثلاثة آلاف!
وزاد الطين بِلَّة.. والوَضْعَ حَرَجاً.. والمسلمين كرباً.. أنْ يغدر يهودُ الداخل من مواطني المدينة بأهل المدينة، وينقضوا عهد المواطنة الذي يجمعهم بالمسلمين، والذي يُقِرُّ لهم ما للمسلمين وما عليهم من الحقوق والواجبات المدنية!
فيزداد الكرب ضيقاً.. ويعظم التوجُّس والخوف، بعد أن أصبحت المدينة بهذا الغدر اليهودي الداخلي عُرضةً للاختراق والمباغتة من قبل العدوّ.
وتكون هذه المحنة التي قد تستأصل شأفة الإسلام - في الحسابات المادية المجرَّدة - أنسبَ فرصةٍ للمنافقين الذين يتخللون الصفَّ الإسلامي ويظنهم المسلمون منهم، ليبثوا رُوحَ التخذيل والتشكيك بوعد الله لرسوله، وليستثمروا المحنة في محاولة ثني المسلمين عن نصرة الإسلام ورسوله.
كما يشكل جوّ المحنة بأعاصيره الهوجاء وريحه السموم، موسم تلاقي وتزاوج أعداء الدعوة من كل صنف - مشركين ويهود ومنافقين - تزاوج بين مَن لا يتصافون عادةً أوقات الصفو، بينما تجمعهم وتوحّدهم عداوة الدعوة إلى الصراط المستقيم! ليفرِّخوا - سِفاحاً - مُسوخاً من المخلوقات، وأقذاراً من الأخلاق وضعةِ النفوس وخِسًّتها لا تخطر ببال بشر!
فتكون هذه المحنة بمثابة الحَجَرِ الذي يُحَرِّك مياه المنافقين الآسنةَ الراكدة، ليطفو المنافقون على السطح بشكل أكثر وضوحاً، لا شجاعةً منهم، ولكن يقيناً استقرّ في نفوسهم المريضة أن الإسلام لن تقوم له قائمة بعد هذه الواقعة ليحاسبهم فيما بعد!
ولكن.. يأبى الله إلا أن يُحِقَّ الحقّ في نهاية المطاف، ويمحق الظالمين والمنافقين، ويجعل من المحنة الظاهرة مِنحةً باطنة، تفضح خيانة العملاء دون عَناءٍ من مراقبةٍ أو ظنّ، وتكشف عوراتهم أمام المجتمع كافة، لا أمام الدولة فحسب؛ ليلفظهم المجتمع قبل أن تحاسبهم الدولة، وليكون المجتمعُ مِن مِثلِهم على حذر في قادم الأيام.
في الجهة المقابلة.. تفرز المحن وتكشف صفاء معادن البعض، من الاحتكاك بصنوف الظلم والعدوان والملاحقة والتخويف وسلب الحقوق، ولكن هذا البعض قليلٌ إذا قورن بكمّ النتاج الشيطاني الذي أفرزته ذات المحن، وما ذلك إلا لأن الحق يُعرف بالكيف لا بالكمّ، ولأن البناء المرتفع الشاهق يقوم على أكتاف أركان وأعمدة معدودة، لكنها من الصلابة والقدرة بحيث تحتمل الطوابق الكثيرة والعلوّ الشاهق.