ثلاثيّة داعش والنّصرة وأحرار الشام

مجاهد ديرانية

هذا الإصرار الغريب على جمع الحركات الثلاث معاً يثير الريبة ويدعو إلى الاستغراب. منذ الأيام الأولى التي بدأنا فيها بالتحذير من داعش انطلقَت هذه المعزوفة المملّة: ستبدؤون بداعش، ثم النصرة، وأخيراً الأحرار. ثم دارت الأيام وصدرت عن النصرة أفعالٌ تستحق النقد فانتقدناها، فعادوا يقولون: لقد انتقدتم داعش ذات يوم ثم دعوتم إلى قتالها، وها أنتم تنتقدون النصرةَ اليوم، وعمّا قليل ستَدْعون إلى قتالها كما دعوتم إلى قتال داعش، فإذا فرغتم منها ستقاتلون الأحرار.

أكثر الذين يرددون هذا الكلام هم من أنصار داعش الذين ساءهم أننا كشفنا حقيقتها الكالحة ودعونا إلى قتالها وكفّها عن العدوان، وأقلهم من أنصار النصرة الذين يقدّسون المنهج وأصحابَه ولا يحبون الناصحين. ولو كانوا قلّة لتركناهم حتى تجفف شمسُ الصباح أباطيلَهم التي نشروها بلَيْل، ولكنهم يتكاثرون، ينقل بعضُهم عن بعض بلا بحث ولا تفكير، وكثيرٌ منهم من غير أهل سوريا، يجهلون ما يجري على أرضها ثم يسارعون إلى إصدار الأحكام القاطعة وكأنهم بها أعرف العارفين. فإذا سألتَهم: ما حَمَلكم على ترديد هذه الخرافات؟ قالوا: علمنا أن داعش والنصرة والأحرار أصحابُ منهج واحد، فحكمنا بأنّ ما دفعكم إلى استعداء داعش سيدفعكم إلى استعداء النصرة والأحرار لا محالة.

لقد أخطأتم خطأين كبيرين أيها السادة، فنحن لم نستَعْدِ داعش، بل هي التي استَعْدَتْنا، فعَدَتْ علينا وغدرت بثورتنا وطعنتنا في الظهر. ونحن لم ننقم منها أنّ لها منهجاً خاصاً، إنما نقمنا عليها أمرين: أنها كفّرتنا وقاتلتنا، وأنها غدرت بثورتنا واحتلت أراضينا المحرَّرة فأقامت عليها مشروعها الخاص، مشروع الخيانة والغدر والضِّرار.

ثم إن افتراضكم قائم على خطأ محض، فإن داعش والنصرة والأحرار لم تكن شيئاً واحداً في أي يوم من الأيام. صحيحٌ أنّ النصرةَ بنتُ تنظيم دولة العراق الذي تحول من بعدُ إلى داعش، ولكنها بنت عاقّة تمردت على التنظيم من اليوم الأول لإعلان كيانه الجديد في العراق والشام قبل عام وثلثَي عام، أما الأحرار فلم يكونوا جزءاً من ذلك الكيان قط، وإن كانوا في أول أمرهم قريبين من النصرة بالمنهج والأفكار.

*   *   *

لقد كانت داعش عدواً لنا منذ كانت، وقد بدأنا -في سوريا- بالتحذير من شرّها منذ أن سَفَرت عن وجهها القبيح وقامت بأول عدوان على ثورتنا، في خريف عام 2013، ولم نرَ منها في تاريخها الأسود المُثقَل بالخيانة والغدر والكذب والعدوان خيراً قَطّ، وما صنعت شيئاً لأهل سوريا ولا أطلقت طلقة فما فوقَها إلا في سبيل مشروعها الخاص، المشروع الذي كشفه السوريون وفصّلوا فيه القولَ منذ عام، يوم أعلنوا أن "مشروع داعش هو احتلال سوريا" وليس تحريرَها من الطغيان.

أما جبهة النصرة وحركة الأحرار فإنهما جماعتان مجاهدتان، وقد كانتا قريبتَين في يوم من الأيام، إلا أنهما لم تعودا كذلك، فقد تحركت جبهة النصرة في اتجاه وتحركت حركة الأحرار في اتجاه معاكس، فما تزالان تتباعدان منذئذ.

اختارت حركة أحرار الشام أن تكون جزءاً (بل وجزءاً مهماً وحيوياً) من المنظومة الثورية المحلية وأن تعمّق انتماءها لمشروع الجهاد الشامي، فيما اختارت جبهة النصرة المشيَ في الاتجاه الآخر، بعيداً عن هذا المشروع وتكريساً للمشروع القاعدي. وهو قرار تكاد تكون مجبَرة عليه ويكاد يكون هو خيارَها الوحيد، فإنها تتنافس مع داعش على "خزّان بشري" واحد، هو الجمهور الذي ينتمي إلى فكر القاعدة ومنهجها، فإذا لم تُرضِ جمهورَها ستخسره حتماً لصالح داعش في وقت قريب أو بعيد.

*   *   *

إن جبهة النصرة تبتعد عن الجسم الثوري وتسترضي عناصرَها بنبذه والتمايز عنه، فيما تقترب حركةُ أحرار الشام منه وتزداد معه انسجاماً وبه اندماجاً باستمرار، بل إنها من أكثر مكوّناته قيمةً ومن أهم صِمامات الأمان فيه على المدى الطويل. هذا الفرقُ وحدَه يكفي لهدم النظرية التي تجمع الأحرار مع النصرة وداعش في منظومة واحدة، فكيف إذا أضيفت إليه فروق حاسمة أخرى؟ أهمها ثلاثة:

(1) العمل المشترك: لم تكن داعش قط جزءاً من الثورة، بل كانت عدواً محارباً غادراً على الدوام، وهي لم تكتفِ بعدم المشاركة في المؤسسات الثورية والاندماج بها، بل إنها عملت على حربها وتدميرها واغتيالها كما صنع النظام. أما جبهة النصرة فقد كانت جزءاً من الثورة، وما تزال، ولكنها استقلّت دائماً بمؤسساتها الخدَمية والقضائية في كل المناطق المحررة، وهي لا تحب العمل المدني والإداري المشترك وترفضه باستمرار (لا يدخل في هذا الإطلاق العملُ العسكري المشترك في غرف عمليات مؤقتة أو جبهات محدودة).

بالمقابل لم تُدْعَ حركةُ أحرار الشام إلى مشروع مشترك فتخلفت قط، بل كانت دائماً من أول المُجيبين، فأيّدت كل اجتماع يقضي على الفُرقة والخلاف، وكانت جزءاً من المؤسسات الخدمية والإدارية والقضائية في المناطق المحررة، بل إنها من أهم مكونات تلك الأجسام الثورية الجامعة.

(2) الغلو والتكفير: التكفير عند الدواعش كالماء والهواء، لا يعيشون إلاّ به، وقد صار علَماً على داعش ودليلاً قاطعاً على خارجيّتها. وهو عند أتباع النصرة كالحلوى التي توزَّع بعد الطعام، منهم من يُقبل عليها ومنهم من يُعرض عنها، إلا أنهم بالجملة جُرَآء على التكفير ويجري ذكره على ألسنة عناصرهم وقادتهم بلا حرج، بما فيهم الجولاني الذي سمع الناسُ تكفيرَه الصريح للائتلاف السوري وهيئة الأركان في تسجيله الشهير "ليتك رثيتني" وفي غيره من الكلمات.

أما عند الأحرار فإن التكفير كالخمر وسائر المُسْكرات، حرامٌ شربُها حرامٌ عصرُها حرامٌ بيعُها وشراؤها، فلا يشتغل به عناصر الحركة ولا يَصدر عن قادتها، بل إنهم يقاومونه ويعالجون أسبابه، وهو عندهم -كما عند جمهور الأمة- من اختصاص القضاء الشرعي وليس ألعوبة يعبث بها الجَهَلة والمراهقون.

(3) الفرق الثالث المهم هو في المشروع المنفرد المستقل، فإن أحداً من أطراف الصراع في سوريا لم يسعَ إلى مثل هذا المشروع سوى داعش (التي تريد فرض مشروعها على الأرض السورية كلها فيما يبدو) والأكراد (أعني حزب الاتحاد الديمقراطي حصراً، الذي يسعى إلى فصل المناطق الكردية في القامشلي وعفرين في إدارة ذاتية)، وربما أقامت النصرة قريباً إمارتَها في إدلب وريفَي حلب وحماة، وهو أمر ظهرت إرهاصاته ولكنه لم يُعلَن حتى الآن.

بالمقابل فإن حركة أحرار الشام أبعد ما تكون عن تبني مشروع مستقل، وهي جزء أصيل من المشروع الجهادي الشامي، لم تعلن ذلك بلسان المقال فحسب، بل أثبتته أيضاً بلسان الحال مئات المرات. ولا يعني هذا أن حركة الأحرار ليس لها مشروع، بل لا يُتصوَّر أصلاً أن يخلو أي فصيل في سوريا من مشروع لما بعد التحرير. إنّ من حق كل فصيل أن يكون له مشروعه وأن يَعرضه ويروّجه ويدافع عنه، ولكنْ ليس من حق أيٍّ كان أن يحتكر المشروعَ الثوري لمستقبل سوريا أو أن يفرض مشروعه على السوريين.

إن الفصائل كلها (ومن بينها حركة أحرار الشام بالتأكيد) متفقة ضمناً على أن أيَّ مشروع ثوري لا يَستمدّ قوّتَه من السلاح الذي يحمله أصحابُه، وإنما من ثلاثة عناصر مستقلة عن السلاح ومرتبط بعضُها ببعض: قوة المشروع وتكامله، وقدرة أصحابه على عرضه وإقناع الجمهور به، وحماسة عامة الناس له واقتناعهم به وإقبالهم عليه.

*   *   *

الخلاصة: ليس من الإنصاف ولا من مصلحة الثورة إجمالُ هذه الجماعات الثلاث في نسق واحد. إن داعش عدو صريح، جماعة غادرة خائنة مجرمة لا محلَّ للصلح معها في أي يوم من الأيام، وهي عندنا كالنظام، عدوٌّ وجوديّ لا تتسع سوريا لنا وله أبداً، ولا بد من فناء أحد الطرفين في سبيل بقاء الآخر. وإنّا -إن شاء الله- ماضون في حربها حتى نسترجع ما سلبته من أراضينا المحررة وحتى نطهّر منها أرض الشام، ولو بعد حين.

أما جبهة النصرة فإنها فصيل ثوري حقيقي، ولكنها أخطأت أولاً بارتباطها التنظيمي بالقاعدة، ثم أخطأت آخِراً بالسعي إلى مشروع مستقل والتفرّد بالقرار الثوري ورفض التحاكم إلى القضاء المشترك. ونحن ماضون في نصحها وتقويمها، باللين ما نجح اللين وبالشدة إذا لم تبقَ إلا الشدة، لأننا نحب أن تبقى جزءاً من ثورتنا، فما أحوجَنا إلى صديق حقيقي صَدوق يشاركنا آمالنا وأهدافنا ولا يسعى إلى تطبيق مشروعه الخاص على حساب ثورتنا وتضحياتنا.

أما حركة الأحرار فإنها مكوّن ثوري أصيل وجزء حيوي من الثورة، وقد أخذنا عليها في وقت من الأوقات أنها ضيّقت الجهاد الشامي وحصرَته في المنهج التقليدي للمدرسة السلفية الجهادية، ولكنها لم تلبث أن خرجت من ضيق "المنهج" إلى سعة الإسلام ومن العزلة النسبية إلى الريادة والانفتاح. ولعل في قواعد الحركة حالياً مَن يتعصب لمنهج "القاعدة" ويتطرف في حمل فكرها، ولكنهم قلّة فيما أحسب وأرجو أن يعالجهم الزمن، أما الحركة نفسها فقد صارت اليومَ شريكةً في مؤسسات الثورة وصِمامَ أمان مهماً لها بما تملكه من قوة وحيادية وتوازن في الرؤى والمواقف الثورية.