حرية الاعتقاد (3)
رياح التغيير
د. نعيم محمد عبد الغني
نواصل الحديث حول حرية الاعتقاد التي بدأناها بذكر إشكالات منها كيفية الجمع بين قوله تعالى (لا إكراه في الدين) وقوله –صلى الله عليه وسلم-: (من بدل دينه فاقتلوه)، وذكرنا أن الإسلام يقتل المرتد لأنه خرج عن قوانين الدولة المسلمة، وترك دينه، وخان الجماعة، وارتكب خيانة عظمى يعاقب القانون عليها بالإعدام، فأصبح عضوا فاسدا في المجتمع يجب بتره، وهذا لا ينطبق على أهل الكتاب الذين عرض عليهم الدين فلم يؤمنوا، فلهم بذلك عهد وميثاق، ويحافظ الإسلام على حرية معتقداتهم، فلا تهدم الكنائس، ولا يضيق عليهم في شعائرهم التي يقيمونها، ما داموا في سلام اجتماعي وفي وطن واحد، وشواهد الإسلام على ذلك كثيرة وأبرزها وأشهرها عهد عمر بن الخطاب لأهل إيليا في هذا المقام.
لكن تظهر الآن أمامنا مشكلة تسببت في أحداث كبيرة في مصر وغيرها من بلاد العالم، وهي: هل إذا دخل أحد الإسلام وطلبه أهله أو جماعته يرد إليهم؟
والجواب -والله أعلم- أن الأصل في الإسلام أن المرأة إذا دخلت الإسلام وجب على المسلمين أن يحموها ولا يرجعونها إلى دينها السابق، قال تعالى: (فإن علمتموهن مؤمنات فلا ترجعوهن إلى الكفار، لا هن حل لهم ولا هم يحلون لهن). وإنما جوز الإسلام للمسلم أن يتزوج من أهل الكتاب، ولم يجوز للمسلمة أن تتزوج كتابيا، انطلاقا من حرية العقيدة؛ إذ يجب على المسلم ألا يجبر زوجته الكتابية على الإسلام، وألا يحرمها من ممارسة شعائرها الدينية، فالكتابية لها كل حقوق الزوجة المسلمة إلا الميراث فقط، أما المسلمة فإنها إذا تزوجت بغير مسلم، فإنها ستمنع أو تقيد في حرية ممارسة شعائر الإسلام أمام زوجها الكتابي، ومن هنا كان حكم الله القائل: (فلا ترجعوهن إلى الكفار).
وقد نزلت هذه الآية عقب صلح الحديبية، حيث رد الرسول أبا بصير وأبا جندل إلى الكفار ولم يرد أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط، واستثني من بنود الصلح النساء أو على حد قول الرسول –صلى الله عليه وسلم- إن الله نقض العهد في النساء.
هذا هو الحكم العام القاضي بعدم تسليم من تعلن إسلامها إلى أهلها الذين هم غير مسلمين وقد يؤذونها ويعذبونها، وهذا ما يعمل به الأزهر في مصر، إذ توجد لجنة إشهار الإسلام، لتثبت للمصري الذي أسلم إسلامه وتشهره، ليكون حماية له أمام القانون الذي يمنحه حرية الاعتقاد، ولكن ما حدث في عهد مبارك أن الكنيسة قويت شوكتها، واستقوت بالخارج على مصر، وأثيرت الفتن والمشاكل يوما إثر آخر، وستهدد هذه الفتنة الوطن بأكمله، بل أريقت دماء كثيرة بسبب حكاية قد تكون صحيحة أو غير صحيحة عن إسلام فتاة احتجزت في الكنيسة، وبعدها لن يعيش الناس في أمان، بل كان سب الله ورسوله علنا، ونحن أمرنا بعدم استفزاز أتباع الديانات الأخرى، قال تعالى: (ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم)، وقد رأى النصارى أن خروج واحد من ملتهم إلى الإسلام يعد استفزازا لهم، فما الحل؟
هل نسكت أم نتروى في الأمر لننفذ حكم الله الذي أمرنا بأن ندعو إلى دين الإسلام بقوله: (ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن، إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين).
والذي أراه في المسألة بعد مطالعة –والله أعلم- أن يتروى المسلمون قليلا في هذا الأمر، ويراعوا المصلحة العامة، فإذا ترتب على تغيير المنكر منكرا أشد منه نكارة فهو عين المنكر كما قال ابن القيم رحمه الله.
ثم إذا توفر المناخ المناسب الذي يجعل للحاكم شوكة قوية يطبق فيها القانون على الجميع دون خسارة، من غير ظلم لأحد طبقنا هذا الحكم الإلهي، ولست بذلك أعطل حكم الله، بل أقدم الأولويات من أحكام الله، التي منها حفظ الدماء وحقنها، عن البراء بن عازب أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (لزوال الدنيا أهون على الله من قتل مؤمن بغير حق) رواه ابن ماجه، و في الأثر (إن هذا الإنسان بنيان الله ملعون من هدم بنيانه).
إن الحدود لا تطبق في الشريعة إلا إذا توفر لها المناخ المناسب، مثل حد السرقة الذي أوقفه سيدنا عمر مؤقتا في عام المجاعة وحد شرب الخمر الذي لم يطبقه سيدنا سعد بن أبي وقاص في الحرب.
وعلى من يرغب في الإسلام أن يراعي المناخ العام للبلد، فيخفي إسلامه، ويفكر في الهجرة والخروج بهدوء والفرار بدينه وليكن مثل ملك الحبشة الذي صلى عليه الرسول، حيث لم يظهر هذا الملك دينه خشية اضطرابات في بلده، واستعمل عقله في الحفاظ على الدماء. وللحاكم بعد ذلك أن يتحرك في إطار السلم الاجتماعي والحفاظ على الأرواح والممتلكات أولا، يقول الدكتور عبد القادر عودة في كتابه التشريع الجنائي في الإسلام: (ويجوز للدولة الإسلامية عند الضرورة أن تبعد أي مسلم أو ذمي عن أرضها، إذا لم تكن هناك وسيلة لدفع الضرورة إلا الإبعاد. ويجوز أن يكون الإبعاد لبلد المبعد الأصلية أو لأي بلد إسلامي آخر، ولكن لا يجوز بأي حال أن يكون الإبعاد إلى دار الحرب، ولو كان بين دار الإسلام وبين المكان الذي أبعد إليه من دار الحرب موادعة).
وهذا الكلام وإن كان في مقام الحديث عن دار الحرب ودار السلام، إلا أننا يمكن أن نسترشد به في هذه القضية الحساسة، وهذه الظروف الفاصلة، فالذي يدخل الدين عن قناعة سيكون على استعداد لأن يبذل الغالي والنفيس في سبيل الحفاظ على عقيدته، حتى وإن ظل بين قوم ليسوا مسلمين، بل سيكون له أجر مضاعف بإسلامه وبحفاظه على أرواح الناس. هذا هو الرأي الذي أميل إليه بعد طول نظر، وآمل أن أجد فيه مناقشة ترفضه أو تعضده، كي تستوي الفكرة على سوقها في أذهاننا، لتستقيم الأفهام فلا تضل، وتثبت الأقدام على الحق فلا تضل.