معذرة فإنا عاجزون.. ولكن
محمد جميل مصطفى
نعم أيها الطفل البطل... ومجاراة للعرف اللغوي نقول: نعم أيها الفتى البطل... نعم نحن عاجزون... ولسنا نحن فقط العاجزين.. بل كل بني البشر عاجزون عن اتخاذ الموقف الذي يليق بشموخك يا حمزة...فقد توجت بطولتك بما رأيناه في آخر ما أوصلك إليه صمودك وشجاعتك... إن ما رأيناه هو ثمرة صمود وتحد كبيرين من قبلك أنت، وهو نفسه ثمرة حقد دفين من قبل قاتليك..لذلك كان البشر عاجزين عن توفيتك حقك..ويمكنهم أن يتخلصوا من هذا العجز فقط في حالة واحدة... حين يكونون مثلك... وربما لن يُتاح ذلك لأحد خارج سوريا.... لأن هناك جهتين شاركتا في بطولتك... الأولى هي نفسك التي بين جنبيك... ويُلحق بها بيئتك التي درجَتْ فيها طفولتك التي لم تكتمل بعد... وعلى رأس الفاعلين في هذه البيئة أبواك.. .. نعم أبواك اللذان أرضعاك الكرامة والعزة والإباء مع الحليب الصافي الطهور حين أعطتك إياه أمك من معين شموخها وطهرها وأصالتها... وأما الجهة الثانية فهي (آلة الإجرام) التي اتّخذت من سوريا عنوانًا ومرتعًا لها في الأيام التي سبقت استشهادك... هذه الآلة التي لم يشهد التاريخ المعاصر مثيلاً لها.. حتى عند أولئك الذين يصنف البشر دولهم في الأخير... من حيث الجهل والتخلف والتوحش... ولذلك قلنا لن يُتاح لأترابك من خارج سوريا أن يرتقوا إلى ما ارتقيت... لأنهم وإن توفرت فيهم صفاتك الحميدة واحتضنتهم بيئة كبيئتك.. إلا أنه لن تتوفر لهم خارج سوريا آلة إجرام تصنع بهم ما صُنع بك...
من هنا أيها الطفل البطل الشهيد يتولد العجز لدينا ولدى غيرنا في أن نتخذ ما يناسب عظمتك وموقعك وأنت تُزف إلى جنات ونَهَر في مقعد صدق عند مليك مقتدر..
أيها البطل... لقد كان استشهادك وسامًا زينتَ به صدر أبيك وأمك وقد كُتب فيه..
نشأتُ على الكرامة فافهموني إذا ما متُّ من أجل القضية
لَمَوتٌ فيـه غيظٌ لِلأَعَـادي أحَبّ إلي من عيش الدنيّـة
أيها البطل... لقد شرّفت باستشهادك كل أهل الجيزة... بلدتك التي عُهد عنها أنها تكون هادئة وادعة حين لن تُمس في شرفها وكرامتها.. ولكنها تنقلب إلى بركان ثائر، وطوفان هادر حين يتعلق الأمر بشرف أو حرية أو كرامة...
أيها البطل... من جهة أخرى كان استشهادك أولاً والمثلة بك ثانيًا وصمةَ عار تُدمغ على جبين كل من يُبقي على أي صورة من صور التحالف أو التأييد أو حتى التبرير لمن قتلك.. لمن مثّل بك... لمن تلذذ بتعذيبك... لمن انتفش وهو يحس بنصر مزيف ومكذوب تاركًا بصمات وحشيته جليّةً في تلك الكدمات والحروق والطعنات في جسدك الغض الطهور...وصمة عار كُتِبت بحروف؛ هي طلاسم وألغاز عند الذين لا يفقهون ولا ينتمون للطبيعة الإنسانية، ولكن الأحرار والشرفاء يستطيعون فك تلك الطلاسم ليجدوها بيانًا سلطويًا يقول: يا شعب سوريا... نحن الموقعين أدناه.. نعلنُ بأن ما ترونه على جسد الفتى هو جزاء كل من ينطق بالحرية ولو كان طفلاً... فلْتعلموا أننا نحن الممانعون لتطلعات وآمال الأطفال...ونحن الصامدون في وجوههم وهم يتحركون نحو تلك الآمال.. كما أننا نحن المحبطون لمخططات ((الحرية)) التي تحاك لحمتها وسداها في الخارج!!..
أجل يا حمزة.. لقد كانت تلك الحروق والنّدبات والكدمات شاهدًا حيًا وناطقًا على جرائم بامتياز وقعت في القرن الحادي والعشرين..وعلى ثرى بقعة من الأرض تدعى سوريا...
أيها البطل.... لقد كان استشهادك نداءً انطلق من قلبك الحي..وإحساسك المرهف وضميرك اليقظ.. لكل أطفال سوريا.. فكنت فيهم خطيبًا بحق ..وقلت لهم:هلموا إليّ.. فعندي ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر... بل عندي أكبر من ذلك... عندي رضوان الله تعالى الذي يجلب راحة للنفس وطمأنينة للقلب... ولكن إياكم أن تأتوني من غير أن تفعلوا كما فعلت.. أتدرون ما فعلت يا أصدقائي في الوطن الغالي...؟ كنت أُرِي الجلاوزة الحاقدين.. كبريائي... كنت أتحداهم بلساني الذي يهتف حرية.. حرية.. ولما امتدت أيديهم الآثمة لقطعه ولم يتمكنوا دقّوا رقبتي... كنتُ أرفض الاستعباد الذي يدعونني إليه.. كان كل سوط يُلهب جسدي... وكل طعنة غادرة في بدني.. وكل كلمة قذرة تخرج من أفواههم لتنال من أهلي وبلدتي وعائلتي وعشيرتي..كان كل ذلك يجعلني أزمجر في وجوه هؤلاء الأقزام، وحقيقة كانوا في نظري أقزامًا..، وإن كانوا في صورة عماليق كالخشب المسندة.... كنت أصرخ في وجوههم... لا ... لن ترون مني إلا ما يغيظكم... ولن أعطيكم ما تريدون ما دامت لي عين تطرف...
أيها البطل... يا حمزة الخطيب... لم يكن استشهادك، فقط، لبنة في بناء الحرية والعدالة.. الذي يسعى الشعب السوري لتشييده ويجبل ملاطه بدمه... بل كان استشهادك هو الأساس الصلب القوي المتين.. لذلك البناء.. لقد ألقى استشهادك في روع كل سوري.. ألا تردد ولا تراجع يا شباب... فالبناء الذي أساسه قوي... لا يمكن أن ينهار... فامضوا وحققوا ما مات عليه حمزة....
أيها البطل .. وكان دمك الذي سال بحراب الجلاوزة وقودًا يغذي الثورة ويمنحها العزم على المضي... وكأنه يقول لشبابها: صحيح أن الطريق قد يطول... ولكن الوقود وفير.. يصلكم من نبع لا ينضب... نبع تفجر من أول قطرة دم سالت على أرض سوريا الحبيبة..فامضوا ولا تترددوا فإن مسافة الألف ميل تُقطع بأول خطوة...
أيها البطل... من أجل هذا كله ومن أجل غيره نرى أنفسنا، نحن الذين ذرفنا الدموع سخية حين علمنا باستشهادك، ووقفنا بإعجاب أمام بطولتك.... نرى أنفسنا عاجزين حتى عن أداء تحية تليق بك... فمعذرة... ولكن لا عذر لنا إن توقفنا... فالمرء لا يُعذر إن أقدم على ما فيه هلاكه... لذلك لن نتوقف... وطبْ نفسًا بفتيان مثلك في عمر الورود يهتفون جميعًا ((كلنا حمزة))... ولسان حالهم يقول لك:
لبيك حمزةَ والنفـوس تمــور تبًّـا لِمَـن لم يستجبْ ويخُورُ
ستطيبُ نفسُك من مُضيّ أحبّـةٍ فيمـا مَضيتَ وكلّهم مَسرورُ
حتَى ينَالوا ما قَضيْـتَ لأجلِـهِ وتُزيّنَ الأرضَ الطّهورَ زهورُ
ونَرَى غُرابَ السّوء ولّى صاغِرًا قدْ طاردتْه بلابِـلٌ وصقـورُ