التيسير الاجتماعي

د. خالد أحمد الشنتوت

د. خالد أحمد الشنتوت

باحث في التربية السياسية

كنا ندرس طلاب الأول الثانوي في مادة علم الاجتماع مفهومين اجتماعيين على قدر كبير من الأهمية في العمل السياسي ، وهما التيسير الاجتماعي والكف الاجتماعي .

التيسير الاجتماعي :

وخلاصته أن الأعمال البدنية ، والانفعالية ، التي تتطلب جهدا عضلياً يسهل أداؤها مع الجماعة ، ويصعب أداؤها بشكل منفرد ... أي أن الجماعة تسهل العمل البدني ، والانفعالي ، وكل عمل لايتطلب تفكيراً عميقاً يشبه التأمل  ....

ولنتذكر ( حفر القطن ) أو ( الحصاد ) من أعمال زراعية شرفنا اللله بالقيام بها خلال المرحلة المتوسطة ، كنا إذا أردنا أن نحصد دونماً من القمح أو الشعير ، يبقى العامل المنفرد فيه يوماً كاملاً تقريباً ، أما لوكان هذا العامل المنفرد مع مجموعة مكونة من عشرة أفراد فإنهم يحصدون خمسة عشر دونماً وربما عشرين في يوم واحد ، أي أن أداء العامل المنفرد تضاعف تقريباً عندما كان مع الجماعة ... ولذلك كانت الأسر الريفية تتشارك وتجتمع أسرتان أو ثلاث أسر غالباً من ذوي القربى أو من الجوار ، تتشارك في الحصاد ، فتحصد حقول الأسر الثلاثة ، والمقصود أن أي من هذه الأسر لو حصدت حقلها وحدها تمكث فيه أياماً أكثر مما مكثت  مع الأسر المجتمعة ...

   ولاحظت هذا أثناء الخدمة العسكرية ، في دورة ضباط الاحتياط التي دامت ثلاثة عشر شهراً ، أربعة في قطنا وهي دورة الأغرار، وقاكم الله من لياليها ، وتسعة في اللواء السبعين بالكسوة يومذاك ، وهي دورة التخصص على الدبابات ، وكانت الرياضة يومية كما تعلمون ، وفي يوم السبت ساعتين ، لأنها رياضة حواجز ، وفي يوم السبت كانوا يدربوننا على الصعود على سلم من الحبال والخشب ، لمسافة أقل من عشرة أمتار تقريباً ، ثم نقلب على السلم كي نواجه الحفرة ، ثم نقفز إلى الأرض على منطقة مزودة بالرمل الناعم ، وبالنسبة لنا نحن الجامعيين وبعضنا قارب الثلاثين أو زاد عليها ؛ كانت هذه قاسية علينا ، لذلك عدد غير قليل منا أصابه انزلاق غضروفي أو فتق غضروفي ، وكنت أحدهم حيث ظهر عندي بعد الدورة ببضعة شهور ومازلت أعاني منه ولله الحمد ، ولأنه فتق غير كامل نصحني الأطباء المختصون  أنه لايستوجب  العملية الجراحية ، وعلل الأطباء أنه من رياضة الحواجز المقررة أصلاً لطلاب الكلية الحربية (18 -20) سنة ، وليست لأمثالنا ، ومع ذلك اعتدنا عليها وصارت عادية عندنا ، وأذكر المرة الأولى التي نفذتها ، كان قريباً لي ضابط صف مدرباً عندنا ، وكان حاضراً ، ولما جاء دوري كأنه لاحظ اصفرار وجهي فصار يشجعني ويقول ( خالد ...خالد ...) ولم أكن ( أبا ثائر بعد ) وكان بعض الزملاء يصعد إلى خمسة أمتار فقط ، وكنت أنوي ذلك ، ولكن لما سمعت ( قريبي ) يشجعني صعدت إلى قريب العشرة وسترها رب العالمين .... أقول هذا التمرين لو جاء كل منا بمفرده مانفذه ، لأنه يرى ذلك مستحيلاً ، ويمنعه الخوف ، لكن مع الجماعة كان عادياً ....

وحدثني ضابط صف كان زميلاً لي في المتوسطة ، وتقابلنا في نفس الكتيبة ، قال لي : أول ليلة خرجت فيها كميناً في المنطقة المحرمة ، قضيت الليل كله وأنا يقظ وحذر ( وأرجف من الخوف ) ، وتعجبت من العسكريين المرافقين لي كيف ناما وشخرا ، وبعد بضع مرات صرت أنام مثلهم ، وذات مرة نمنا ، ولم نستيقظ إلا على حر الشمس ، والمفروض أن ننسحب قبل أول ضوء ....لذلك انسحبنا زحفاً نحو الخلف حتى ابتعدنا عن العدو ....

كما كنت أحدث نفسي أثناء الدورة ، وأقول : هل ينام الإنسان على بعد عشرات الأمتار من اليهود ؟ وكنت أتوجس خيفة من ذلك ، وشاء الله كذلك أن أكلف بمهام أتفقد فيها دبابات الوضع ( دبابة ت 34 بدون محرك ) وكانت مهمتي تفقد السلاح فيها والتأكد من صيانته باستمرار مع ضبطه ....وكان بعضها مواجهاً لتل الفرس ، وتل القلع ،على بعد عشرات الأمتار من اليهود ، وكنت اضطر للمبيت عندهم ، وفي الليل عندما أريد قضاء الحاجة يرافقني عسكري ويرجوني أن أقضي حاجتي على مسافة عشرة أمتار عنه ، كي لا أدخل في حقول الألغام ، ولكن أمعائي لاتعمل في هذه الحالة ، فأمشي للوراء في أرض الصديق مسافة مائة متر لأقضي حاجتي ، على غير رغبة الحارس  الذي يرافقني ....

بل أن انفجاراً وقع هز المنطقة كلها ، واتصل قائد الكتيبة في نـوى بقائد سرية المشاة ـــ وكان زميلي في قطنا ــ يسأله عن مكان الانفجار ، فأجابه أنه في المربع ( كذا ) ولم يترك لعب الورق ( أظنه التركس )  مع شلته المفضلة ...ولم يهتم مثلي ....وأعلموني أن هذا الانفجار غالباً حمار دخل في حقول الألغام فانفجر فيه لغم ....

التيسير الاجتماعي في المظاهرات :

ولنتذكر إرهاب النظام الأسدي ، والمجازر الجماعية التي نفذها في الثمانينات ، وأدت إلى قتل  عشرات الألوف من المواطنين ، وربما نقل الآباء إلى أولادهم ماشاهدوا من مجازر لم يشهد لها التاريخ مثالاً أبداً ، لذلك نشأ خوف وذعر من النظام ، ومن مخابراته وصل إلى أن بعض أقاربي يتوجسون خيفة من مهاتفتي ، في مثل هذا الجو الإرهابي من النظام الأسدي ، لنتصور مواطناً واحداً وقف في الشارع يصيح ( الشعب يريد إسقاط النظام ) ، هل يتحرك لسانه وينطلق صوته !!؟ لا أظن ذلك ... أما عندما يكون هذا المواطن مع مئات آخرين ، أو ألوف ، فإن صوته ينطلق عالياً مدوياً كهدير الدبابة ... لأن وجوده مع الجماعة يسـر له الهتاف  الذي يصعب عليه أن يقوله وحده ...

والباحثة الاجتماعية التي نسيت اسمها تقول ( إذا اجتمع الناس طالت آذانهم ) وتقصد أن التفكير يقل عندهم ، وخاصة التفكير البعيد المدى المتقوقع حول الذات ، ويتوحد تفكير الفرد مع التفكير الجماعي ، وهذا من عمليات التسيير الاجتماعي ....أو كما يقول العامة ( ضع رأسك بين الروس وقل ياقطاع اقطع ) ، فالمواطن الذي يمشي مع مئات المواطنين أو آلاف ، يطمئن أن ما يصيبهم سوف يصيبه ، ولامانع عنده أن يكون مثلهم ...وهذا من التيسير الاجتماعي .... 

وحدثني من خاض حرباً مع العدو الصهيوني ، مع وحدته العسكرية ، كيف تزول الرهبة من العدو ، عندما يكون الجندي مع زملائه ، وكيف يصبح قوياً شجاعاً ....حتى لو لم يكن كذلك وحده ....

هذا كله من التسيير الاجتماعي ، أو قل من أثر الجماعة على الفرد في مثل هذه الأحوال ....وسنرى الكف الاجتماعي في المرة القادمة إن شاء الله ....