الثورات العربية والأنظمة المستبدة

محمود المنير

مدير تحرير جريدة الحركة/الكويت

[email protected]

المتابع الحصيف لمستجدات الأحداث في المشهد العربي الحافل بالتطورات منذ اندلاع الثورات العربية في مطلع العام الجاري ، يجد أن هناك معركة حقيقية حامية الوطيس تديرها الأنظمة المستبدة في المنطقة بعضها في العلن ، والبعض الآخر في الخفاء ومن تحت الطاولة ، من خلال ثورات مضادة بهدف إفشال الثورات العربية التي أسقطت عرشين من عروش المستبدين ( مبارك في مصر وبن على في تونس ) ، حيث فزعت بقية الأنظمة المستبدة لتدارك مواقفها وبحث كل السبل لحماية عروشها من التهاوي هي الأخرى تحت مقصلة الشعوب ، وهناك ملاحظة يجب تسجليها في هذا السياق ، وهى أن نظرية المؤامرة التي كنا نتهم بتخيلها كشعوب باتت حقيقة واقعة، وليست من نسج خيالنا ، وربما بعض التسريبات التي فجرها موقع "ويكيليس" بغض النظر عن الهدف من تسريبها أو مصداقية ما ينشره ، إلا أن "ويكيليس" الثورات العربية كشف عبر ميادين الحرية في الشعوب التي اندلعت فيها الثورات ومازالت أكدت وسجلت وقائعها بالصوت والصورة وعبر البث المباشر وبما لا يدع مجالاً للشك جملة من الوثائق والحقائق الميدانية ومن أهمها :

- أننا كنا وما زلنا نعيش في المنطقة العربية في ظل نظم مستبدة ، لا تعرف من الديمقراطية إلا اسمها ، ومن الحرية إلا رسمها ،ولم تتنسم شعوبها الحرية منذ أكثر من ستة عقود.

- أن النظم المستبدة التي تحكمنا عاشت طوال فترات حكمها تسمن الكروش ، وتملأ الخزائن ، وتزيد أرصدة الحسابات الخاصة بها من قوت الشعوب ، وثروات العباد وخيرات البلاد ،بينما كانت تشاهد الملايين يسحقها الجهل والمرض والجوع .

- أننا كشعوب عربية خُدعنا دهراً طويلا بزيف الشعارات القومية ، والأفكار العلمانية ، وخطب الحكام المستبدين المكذوبة ، وبيانات وتصريحات وزرائهم وشركائهم المزيفة عن الرخاء ومعدلات التنمية الوهمية بينما كانت الملايين بلا مأوى ولا عمل ، تتصبر على الفقر وتنتظر الرخاء !!

- أن دماء الآلاف التي سفكت والأرواح التي أزهقت بأيدي جيوش وقوات وزبانية الأنظمة المستبدة لن تضيع هباءً منثوراً فإن كان للحرية ثمن فهو الحرية، وضريبة الذل كانت دائما أفدح من ضريبة الحرية ، وأن هذه الدماء التي سالت ومازالت تسيل تكتب شهادة وفاة هذه الأنظمة التي سفكتها دون وجه حق .

نعود إلى مسار الثورات العربية وتعامل الأنظمة المستبدة معها حيث أكدت مجلة "دير شبيجل" الألمانية أن مسار الأوضاع في الشرق الأوسط يشير إلى أن الأنظمة الديكتاتورية العربية تقود الثورة المضادة في المنطقة. ورصدت المجلة في تقرير لها على موقعها على شبكة الإنترنت تراجع الحالة الثورية في العالم العربي، الأمر الذي يبدو في مشهد الفتنة الطائفية في مصر والقتلى والجرحى في سوريا وليبيا واليمن،وأضافت أن ذلك يجرى فيما يحشد الأمراء والملوك والسلاطين العرب قوتهم لشن ثورة مضادة.

وأضافت المجلة أن الثورة تحدث طبقا لقوانينها الطبيعية عندما تيأس الطبقة الأدنى ولا تستطيع الطبقة العليا الحفاظ على إحكام قبضتها عليهم باستثناء ما إذا كانت هذه الطبقة العليا قادرة كالنظام السوري والليبي على نشر الدبابات في الشوارع وحصد أرواح المتظاهرين بدم بارد.

وأشارت المجلة إلى أن عناد القذافي شجع الكثيرين من المستبدين غيره بعدما رأوا مصير حسني مبارك وزين العابدين. وثمة حقيقة أخرى هي أن هؤلاء المستبدين نجحوا في بناء شبكات من العلاقات التي تضمن لهم البقاء مثل الأسد مع عشيرته في سوريا، والقذافي في ليبيا، وصالح في اليمن، حيث تشمل هذه الشبكة عسكريين ومدنيين وسياسيين ورجال أعمال لهم مصالح مباشرة في بقاء النظام.

وتناولت المجلة ما أسمته الطرق الثلاثة في معالجة الأنظمة القديمة للأزمة .

الطريقة الاولى : ما اختارته القيادة الصينية في ميدان 'تيان ان من' في 1989 وهو القهر الوحشي لكل المقاومين مثلما تقوم به ليبيا وسوريا واليمن الآن.

الطريقة الثانية هي ما استخدمه الجيش التركي بعد انقلابه في 1960 و 1971 و 1980 وهو ديمقراطية يحكمها العسكر وهو السيناريو الذي يتكشف الآن في تونس ومصر.

وأما الطريقة الثالثة فهي طريق ضيقة من الإصلاحات الموجهة من أعلى حيث تعرف النظم الملكية في الأردن والسعودية والمغرب وكذلك رئيس الجزائر بوتفليقة أن الجيل الأصغر يطالب بالمزيد من المشاركة، وبالتالي تقوم هذه النظم بتنازلات صغيرة لإرضائه.

وثمة رسالة واحدة تبعث بها الأنظمة المستبدة إلى شعوب المنطقة التواقة للحرية وهى تخيير الشعب بينهم وبين الفوضى، وهو ما برز في تصريحات بن على ومن بعده مبارك ، ثم تصريحات بثينة شعبان المتحدثة باسم بشار الأسد لمراسل "نيويورك تايمز" في الشرق الأوسط عندما أكدت أن الاحتجاجات يقوم بها أصوليون ومتطرفون ومهربون ومدانون في قضايا يريدون بالبلاد الفتنة.

ويأتي كلام بثينة متزامنا مع الإجراءات الوحشية التي يمارسها النظام السوري على الطريقة الصينية ضد المتظاهرين خاصة في المدن الجنوبية التي فصلها النظام عن العالم وقطع عنها الكهرباء والماء بل والطعام والاتصالات الهاتفية مع استمرار القصف ضدها.

وهناك في اليمن الحزين يحاول (غير الصالح ) جاهداً جر البلاد إلى حرب أهلية يستعر أوارها بين القبائل علاوة على مراوغاته المستمرة للحيلولة دون الخروج من السلطة ، وفى مصر مازالت فلول النظام البائد تغذى نار الفتنة الطائفية عبر البلطجة والأصولية الدينية التي أدت إلى العنف الطائفي.

هذا المشهد المضطرب المتآمر على الثورات العربية  تدعمه عروش مستبدة قائمة تخشى الانهيار ، وأصحاب مصالح تدعمه بالمليارات ، وقوى غربية تخشى الربيع العربي المرتقب الذي يهدد تحالفاتها ومشاريعها وتواجدها على الحال السابق في المنطقة العربية التي تشهد تحولا جذريا سيغير وجه العالم ، "والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون ".

في السياق : يقول عبد الرحمن الكواكبي :" الاستبداد: أعظم بلاء، يتعجَّل الله به الانتقام من عباده الخاملين، ولا يرفعه عنهم حتَّى يتوبوا توبة الأنفة. نعم؛ الاستبداد أعظم بلاء؛ لأنَّه وباء دائم بالفتن وجَدْبٌ مستمرٌّ بتعطيل الأعمال، وحريقٌ متواصلٌ بالسَّلب والغصْب، وسيْلٌ جارفٌ للعمران، وخوفٌ يقطع القلوب، وظلامٌ يعمي الأبصار، وألمٌ لا يفتر، وصائلٌ لا يرحم، وقصة سوء لا تنتهي".( طبائع الاستبداد للكواكبي).