جمعية النهضة : نبض الأمة

د.عثمان قدري مكانسي

[email protected]

حين قرأت اليوم الأربعاء المقال :" النهضة تطالب باحترامها كأقلية سياسية في البلاد" أعجبني أسلوب الكاتب – حفظه الله تعالى- فمن تعالى عليك فتعالَ عليه. ومن تواضع لك فتواضع له .

ولا أكتم القارئ أنني في البداية تعجبت من الردّ الذي حسبته ضعيفاً لا يعبر عن الحقيقة التي يعلمها القاصي والداني واستغربت مما أقرأ ، فلما أتممت القراءة وتابعت الصور الدالة على عظيم ثقة الشعب في جمعية النهضة ابتسمت ابتسامة قريبة من الضحك ، وقلت صدق الله تعالى إذ يقول : " كتب الله لأغلبنّ أنا ورسلي ..." فما قرأت ينبض بالثقة ، وما رأيت يشي بالحقيقة ، إنها فطرة الله التي فطر الناس عليها ، فالشعب يحب الدين وأهله ويثق بالدعاة ويحترمهم ، ويتفاعل مع الكلمة الطيبة ويأنس لها ، ولا يُسلم قياده إلا للأطهار وأصحاب القلوب الندية والأيادي المتوضئة . وهذا يَغيظ المفسدين وأصحاب الأهواء ونقول لهم : " ... موتوا بغيظكم ..." .

يذكرني هذا الرد الرائع بمثيل له في صلح الحديبية حين جاء عروة بن مسعود حليف قريش – قبل أن يسلم ويُقتل شهيداً – يريد أن يثبط المسلمين ويردهم عن مكة ، فمذا كان حين التقى رسولَ الله صلى الله عليه وسلم ؟

إذاً عد معي إلى السنة السادسة للهجرة والرسول صلى الله عليه وسلم في الحديبية وحوله المسلمون . ويصل إليهم عروة بن مسعود ..

قام عروة بن مسعود – وهو من الطائف ، سيد بني ثقيف وحليف لقريش فقال لوجهاء قريش : أيْ قوم ألستُم مني وأنا منكم ؟ .

 قالوا : بلى ، ومكانـُك فينا عظيم كريم .

 قال : أتتهمونني في حب وولاء وسداد رأي ؟.

 قالوا : لا ، فأنت في الصدارة منا حكمةً وفهماً .

 قال : ألم آمر أهل عكاظ أن ينصروكم ، فلما أبَوا نَصَرْتُكُم بأهلي وولدي ومَنْ أطاعني ؟.

 قالوا : صدقت أيها الشيخ ولا ننسى يدك البيضاء هذه .

 قال عروة : فإن محمداً قد عرض عليكم خطّة رشد فاقبلوها منه ، وإن أردتم أن تستوثقوا من صحّة ما نقله بُدَيل فدعوني أذهب إلى محمد أتأكد من مقالته . وكان بديل بن ورقاء قد رغب أن يعتمر الرسول وأصحابه فأبت قريش وعنفه رجالها .

 قالوا : افعل ما بدا لك ، لا نخالفك .

 فانطلق عروة بن مسعود إلى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، يكلم النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، والرسول الكريم يجيبه بما قاله لبديل . . . فلما تأكد عروة من صدق ما نقله بُديل التفت إلى الرسول الكريم ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقال : يا محمد إن للحرب إحدى نتيجتين : النصرَ أو الهزيمة. فإذا انتصرت على قومك واستأصلتهم فهناك العار والشنار على مدى الدهر . . إن العرب ستقول : إن محمداً أباد أهله وعشيرته ، وإذا كانت الهزيمة بدل النصر فهل هؤلاء الذين معك قادرون على الدفاع عنك وافتدائك بأرواحهم ؟!! إني لأرى أخلاطاً من الناس معك ، ولا أرى رجالاً ، وخليق بهم أن يفرّوا ويدعوك ، حين يحمى الوطيس وتَحْمَرُّ الحِدق . ( ما يقوله وقاحة واستفزاز للمسلمين مهاجرين وأنصاراً ).

 وسمع المسلمون ما تقوّله وادّعاه فاشمأزّت النفوس مِن قالته وتجرأوا عليه .

 وكان أكثرَهم نفوراً منه أبو بكر رضي الله عنه ، فأجابه بما لم يكن يظن أن يسمعه . . ولكنّه يستحقه على سفاهته ، قال الصدِّيق : يا هذا ألست تدعي أن اللات التي تعبدها بنت لله ، وحاشا لله أن يكون له ولد ، فاذهب إلى اللاَّت وامصص بِظْرها (( وهي القطعة التي تبقى بعد الختان في فرج المرأة )) .

 كان الجواب مقذعاً ، ولكنه شافٍ للنفس من سماجة هذا المدّعي . . ولكنْ أن تخرج هذه الكلمة من الصدِّيق الحييّ اللطيف ؟! فهذا مؤشر على عمق الإساءة التي صدرت عن عروة بن مسعود هذا في حق المسلمين ـ وضحك المسلمون احتقاراً وازدراء لهذا الدعيّ المتطاول .

 وقال عروة بعد أن وجم برهة لهذا الردِّ الذي لم يكن يتوقعه : مَنْ هذا الرجل الذي سبَّني ؟

 قالوا : هذا الصدِّيق أبو بكر وزير الرسول الكريم . رضي الله عن الصديق صاحب رسول الله.

 قال عروة : لولا أن لك جميلاً في عنقي ـ فقد ساعدتني في دية بعون ٍ حَسَنٍ ـ لرددت عليك ، ولكنْ هذه بتلك .

 وكان عروة كلما كلم النبيَّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ مدَّ يده إلى لحيته ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، والمغيرة بن شعبة قائم على رأس النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ومعه السيف ، وعلى وجهه المغفر كلما أهوى عروة بيده إلى لحية النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ضرب المغيرةُ يده بقائم سيفه وقال له : أخِّرْ يدك عن لحية رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قبل أن لا تصل إليك ، فإنّه لا ينبغي لمشرك أن يمسّه ـ صلى الله عليه وسلم ـ .

 ويقول عروة لهذا الواقف : ويحك ما أفظك وأغلظك !! .

 فلما أكثر المغيرة من قرع يد عروة قال :

 ليت شعري يا محمد من هذا الذي آذاني من بين أصحابك ؟ فوالله لا أحسب فيكم ألأم منه ولا أشرَّ منزلة . . .

 فتبسَّم رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ .

 فقال عروة : من هذا يا محمد ؟

 قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( هذا ابن أخيك ، المغيرة بن شعبة يا عروة )) .

 قال عروة بن مسعود : بئس الابن أنت ، أحسنتُ إليك ، وأسأت إليَّ ! ثم التفت إلى ابن أخيه المغيرة فقال :

 ألم تخرج إلى مِصْرَ مع ثلاثة عشر من ثقيف زائرين المقوقس ، فأحسن إليهم وأعطاهم أكثر مما أعطاك ، فغِرتَ منهم ، فلما كانوا بالطريق شربوا الخمر وسكروا ثم ناموا ، فوثبتَ عليهم وقتلتهم وحملتَ أموالهم ولحقت بمحمد في يثربَ ؟!!

 إنني أنا الذي دفعتُ ديتَهم وما سلبتـَه منهم ، وحقنتُ دماءنا ودماء بني ثقيف .

والتفت بعد ذلك إلى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ

فقال ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( أما الإسلام يا عروة فقد قبلته منه ، فالإسلام يجبُّ ما قبله وقد حَسُن إسلام ابن أخيك .

 وأما المال في الجاهلية فليس لنا أن نسأل عنه : إنما يكون هذا في الإسلام )) .

 وأراد المسلمون أن يردّوا عملياً على تخرصات عروة حين قدح فيهم وذمَّ فقال : (إنهم أخلاط ، يفرون من اللقاء . . . لا كرام فيهم )، فما وقعت نخامة أو رذاذ من رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في يد أحدهم حتى دلك بها يديه ومسح بها وجهه تبركاً بها .

 وما سقطت شعرة من رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلا بادروا إليها يحفظونها في ثيابهم ، ولا توضأ ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلا بادروا إلا وضوئه يمسحون به وجوههم وجلودهم ، وإذا تكلموا بحضرته خفضوا أصواتهم ؛ ولا يديمون النظر إليه ـ صلى الله عليه وسلم ـ تعظيماً له .

 فرجع عروة إلى قريش فقال : يا قوم ، لقد وفدْتُ على قيصر وكسرى ، والنجاشي ، فلم أر مليكاً قط يعظمه أصحابـُه ما يعظم أصحابُ محمدٍ محمداً ، وقصَّ عليهم ما رآه من المسلمين في حق النبي محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ .

 ثم قال عروة : إن محمداً قد عرض عليكم ما فيه خير وعدل وإنصاف ، فاقبلوها منه .

 لانت قناة المشركين لِما سمعوه من عروة في وصف المسلمين وهابوا لقاءهم ، خاصة أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ جاء معتمراً لا يريد حرباً . . كما أن دينه يعظم بيت الله الحرام ، الذي سيبقى قبلة العرب ، وستبقى لهم المكانة العالية ، فهم سدنته .

أرأيت أيها القارئ الكريم كيف افترى عروة – قبل إسلامه- على أصحاب رسول الله وقلل من شأنهم ؟ فكان ما فعلوه من حب وتعظيم للنبي الكريم أكبر دلالة على قوة هذا الدين وروعة أتباعه الملتزمين به ..... والتاريخ يكرر مثيل هذه القصص والمواقف للعبرة والعظة