هجرة عرب المنسي في 6/4/1948

ذكريات النكبة...

حينما تتكلم الجراح يصمت الجميع

د. محمد ياسر عمرو

[email protected]

ونحن نعيش الذكرى الثالثة والستين للجريمة الأبشع على هذا الكوكب، نستذكر مرارة الإبعاد والتهجير، و ألم الغربة والفراق الذي وقع على من غصبت بيوتهم وديارهم ومزارعهم وأموالهم أمام أعينهم، رافق هذه الأحداث الجسام ضعف في توثيق وتسجيل الأحداث بتفاصيلها، فلم يصل لنا من مذكرات من عاصروا النكبة إلا النذر اليسير، ونحن اليوم أمام جزء من وثيقة مهمة قد يكون فقد الجزء الأكبر منها وهي توثق مسيرة  التهجير ورحلة العذاب التي عاناها عرب المنسي  يوما بيوم، والجزء الذي بين أيدينا يرسم لنا بعض معالم عملية التهجير، ومن هذه المعالم :

1-      عنونت الوثيقة ب "مذكرة مهاجرة عرب المنسي" فكاتب الوثيقة عنونها وسماها مذكرة، وفي ذلك دلالة على وعي من المؤرخ والكاتب بأهمية ما يكتب ويسجل، كما أن الكاتب يبدو من وجهاء عرب المنسي ومثقفيهم لأنه يتحدث عن هجرة مجموعة وقبيلة، وكتابته وتأريخه للأحداث يدل على ذلك.

2-      أكدت الوثيقة الرأي الذي تم تبنيه مسبقاً أن أحداث النكبة بدأت قبل تاريخها بسنوات وأشهر، وما تاريخ النكبة إلا نتيجة لهذه الأحداث، فأرخ الكاتب الوثيقة بتاريخ 6/4/1948 أي قبل تاريخ النكبة بشهر تقريبا، ليؤكد هذا التاريخ انتهاج نهج التشريد والذبح والتقتيل قبل النكبة تمهيدا لإعلان سقوط فلسطين بيد المحتل وقيام  دولة الكيان المجرمة.

3-      لم يخرج المهاجر الفلسطيني من أرضه إلى قصد معلوم أو وجهة واضحة في كثير من الأحيان فتقول الوثيقة: إن عرب المنسي قضوا يوما وليلة في الجبال، ثم ذهبوا إلى اللجون (2) وقضوا فيها ثلاثة أيام، ثم سحبوا على وادي تحنك  قضوا فيه خمسة أيام، ثم ذهبوا إلى جنين وقضوا فيها ثلاثة  عشر يوما، ونقلوا إلى برقين من 28/4/1948  قضوا فيها  خمسة عشر يوما ثم رجعوا إلى اللجون التي قضوا فيها ثلاثة عشر يوما ثم رجعوا إلى كفيرت (3)  في 3/6/1948، وفي 22/10/1948 ذهبوا إلى جنزور (4) ويذكر الكاتب أن عدد أيام الإقامة في كفيرت ستة أشهر وأربعة عشر يوما، والجملة الأخيرة في هذه الوثيقة: " وذهبنا إلى جنزور في 22/10/ 1949" ولم نتنته الرحلة إلى هنا، ولكن هذا جزء منها يظهر حجم المعاناة والخوف والتنقل من جهة إلى أخرى ثم العود للوجهة الأولى.

4-      لم تذكر الوثيقة ظروف الإقامة في محطة من تلك المحطات ولا آلية التنقل أو وسيلتها، ولا كيفية تدبير لقمة الحياة والعيش، والتي أكاد أن أجزم أنها مآس مركبة يشق على العادِّ إحصاءها.

5-      ذكر كاتب الوثيقة أثناء وصفه هذه الحالة من التنقل عبارة :"وهم زاهقين الحياة" ليعبر هذا اللفظ الموجز عن معاناة المهجرين، وكأن الحياة لم تعد تعني لهم شيئا، فهي والموت سيان، ليس زهدا إنما لمرارة الاقتلاع من الأرض والوطن والرمي بلا مصير.

6-      ذكرت الوثيقة عبارة" ثم نقلوا إلى برقين" إشارة إلى وجود جهة أو قيادة أو صاحب قرار ينقلهم، ولم أجد في أدبيات تلك الفترة ما يشير إلى وجود قيادة تنقل وتوجه المهجرين وتحدد لهم وجهتهم، والذي أفهمه أن قرارات تصدر من المجموعات المهاجرة المشردة تتسم بالخوف والتردد كانت وراء قرارات التنقل، ولعل الإشاعات وغياب قيادة كانت سبب التنقل المتكرر.

7-      تذكر الوثيقة جزءاً آخر من المعانة أغفله كثير من الباحثين في أحداث النكبة والمتعلق بمن قضوا من المرض والتعب والإعياء والجراح أثناء الهجرة، قال الكاتب:"كل هذا مضى عليهم وكان الحاج موسى والدنا "مريض" إلى حين تاريخ 28/10/1948 ثم توفي"، أكثر من ستة أشهر هذا الكهل يتنقل بهذه الرحلة الشاقة وهو يعاني من المرض بلا رعاية أو طبيب أو علاج، وينتهي به الأمر موتا بعد هذه المكابدة، رحمه الله رحمة واسعة ورحم كل شهداء فلسطين الأطهار.

8-      كتبت الوثيقة بخط واضح وبلغة سليمة وواضحة، وبتوثيق جيد وحساب متقن، وهذا نموذج لمثقفي أهلنا في تلك الحقبة في مدن وقرى وبوادي فلسطين.

9-      وأخير مخطئ ومجرم من يظن أن الأجيال ستنسى، وأن الحقوق ستمحى، فمهما غيرتم في معالم الأرض ومهما عملتم على مسح ذاكرة الإنسان فستبقى الأرض والإنسان شاهدين على جرمكم وإرهابكم وقتلكم وتشريدكم واغتصابكم للأرض والحق.

الهوامش:

(1)     إلى الجنوب الشرقي من مدينة حيفا، وتبعد عنها حوالي 30 كم وترتفع 125 متراً عن سطح البحر، ويطلق عليها أيضا عرب بنيها . بلغت مساحة أراضيها 12272 دونماً قامت المنظمات الصهيونية المسلحة بهدم القرية وتشريد أهلها البالغ عددهم عام 48 حوالي 1392 نسمة وكان ذلك في 6-4-1948، ويقع جزء من مستعمرة "مدراخ عوز" التي أنشئت عام 1952 على أراضي القرية.

(2)     بفتح أوله وضم الجيم مع التشديد. قرية تبعد (18) كيلا شمال غرب جنين. وكانت مقسمة: الخربة الفوقا والخربا القبلية والخربة التحتا، وخربة ظهر الدار. تكثر فيها العيون ومنها عين الخليل، وعين الست ليلى. قدر عدد السكان سنة 1945م (1103) نسمة أصلهم من أم الفحم. وكانت القرية ذات منزلة عظيمة في التاريخ نزلها عدد من ملوك المسلمين، وكانت بها مصطبة معدة لنزولهم .

(1)              اغتصبها الصهاينة سنة 1948م ودمروا بيوتها. وأقاموا في ظاهرها مستعمرة (مجدو).

(2)              قرية كفيرت تقع غربي جنين وشرقي يعبد وتعود تسميتها إلى أصول كنعانية قديمة حيث كانت تسمى كفارت.

(3)              على طريق نابلس جنين، وعلى بعد 4كم  من قباطية.