موت خارج التغطية
من وحي الحالة السورية
نادر رنتيسي
قديماً لم يَكُنْ موتي لائقاً، كان يحدثُ في السرِّ الأعمقِ من بئرٍ مهجورٍة؛ فحينَ يكونُ النهارُ أسود تماما، تبدأ مقدِّماتُ رحيلي، يتواصلُ النزيفُ من مكانٍ حرج، أتحسَّسُ بأصابعَ منزوعة الأظافر أثر السجائر المُطفَأة في عنقي، ويتوقَّفُ شعوري بوجود أطرافي على وَخْزِ الكدماتِ الداكِنَةِ فيها..، في الليل يُقرِّرُ "الجلادُ" السماحَ بمرور الروح إلى السماء، فيَشُقُّ لها منْفَذاً دقيقاً في الرأس بواسطة "الدِّرِل" الصَّدئ!
لا تترَدَّدُ الروحُ في الصعودِ، تهربُ من الجسَدِ المُتْعَب، لا تنتظرُ إكرامي بالدفن وتعرفُ أين سيَنامُ جسدي المثقوب، لكنَّني أموتُ بلا اكتراث؛ لا أتسبَّبُ بحرَجٍ للقاتل، فجثَّتي ستُرْمى في مقبرةٍ جماعيَّةٍ يتمُّ حفرُها قبل صلاة الفجر، في صحراءٍ بعيدةٍ، لا تأتي في منام أمي!
ينتهي وجودي خفيفا، لا يكونُ موتي عبئا على أحد؛ فلا أطبَّاءَ مُضطرُّونَ لتبرير توقُّف النبض، أو شيخا يرعى صعود الروح، ويتأكَّد أنَّ النَّفْسَ "مطمئنَّةٌ" ترجعُ إلى ربِّها "راضِيَةً مَرْضِيَّةً"، ولا مشيِّعونَ يكتمون النشيجَ، ويستعيضون عن الهتاف بحياتي المهدورة، بحوقلة مخنوقة..، هكذا أتلاشى ويتمُّ اختصاري برقم مُرَكَّبٍ يَرِدُ في تقرير بارد لـ"منظمة العفو الدولية"!
لم يحدث أنْ متُّ بضجيج أو أثار غيابي فضول الجيران؛ إنْ كانت لي زوجة وأولاد، فأنا مسافرٌ في عمل مُجْدٍ كثيرا، لا يُتيحُ لي العودةَ إلا بعد أنْ أضمنَ حياةً كريمة على خطِّ العيش الرقيق، وإنْ كنتُ عازباً فأنا وَلَدٌ طائشٌ ذهَبَ في رحلةٍ عبثيَّةٍ لصَيْدِ الجَمَالِ، ولم يَعُد، فقد عرَفَ أنَّ حبيبته الاستثنائية بين النساء، صارت زوجَةً اعتياديَّةً، لا تنامُ إلا بعد أن تطمئنَّ على إطفاء الضوء الخارجيِّ للمنزل!
وحده أبي يعرفُ أين ذهبت؛ قال لأمِّي في العتمة: "ابنكِ لن يعود، لقد راحَ يبحثُ عن عَدْل لوطنه؛ ألَمْ تسمعي في الأخبار أنَّ بلادنا نموذج العدالة.. إذن ولدكِ ماتَ، والمذيعةُ قالت ذلك ضمناً، حين نطقَتْ بكلِّ هدوء أنَّ الموتَ سيكونُ بالمرصاد لكلِّ مَنْ لا يُؤْمِنُ بـ(الوحيد العادل)"!
عضَّ أبي على ألمه، لم يقل شيئا في جلوسه أمام الدكان، كان يسمعُ خطاب الرئيس الذي يَعِدُ فيه الناسَ بحياة لا مَوْتَ فيها، ويُصفِّقُ مثل المصفقين، ويؤوبُ إلى البيت موارياً دمعه، يخجلُ من صورتي وسط الصالة؛ كلما هَرَب إلى اتجاه أستمرُّ بالنظر إليه ضاحكا، كأنني أقول: "مِتُّ حتى يمكنكم الموت من بعدي، وفق عدالة السماء"!
اليومَ صار موتي متاحا للمشاهدَة، يحدثُ على الملأ، في ساحةٍ عامةٍ، بشكل لائق لا يخدشُ هيبة جسدي؛ يأتي سريعا بواقع رصاصة في الرأس، فتصعدُ روحي مُكلَّلة بالتكبير. أذهبُ مطمئنا، فمجرياتُ رحيلي تمَّ التقاطها بواسطة هاتفٍ محمول، وستبثُّ على رأس نشرات الأخبار، وتُلخَّصُ في ثلاث دقائق على "يوتيوب" مع أغنية حماسية، وقد يتضمَّنُها فيلم وثائقي عن ضحايا "الثورة"!
يمكنني اليوم الموت مرتاحا بما أنَّه يتمُّ ضمن نطاق التغطيةِ، لن يستطيعَ الطبيبُ الكذب في التقرير، وسيحتسبني الشيخُ عند الله شهيدا، ويتحوَّلُ المشيِّعون إلى متظاهرين يُمَوْسقونَ اسمي في هتاف يتوعَّدُ الجناةَ، وهذا ما سيدفعُ النشرة الرسمية لامتصاص غضبهم، فتعلنُ المذيعة عن تحقيق "عادلٍ"!
سيكونُ موتا مشهودا يدفَعُ الرئيسَ للخروج في المساء، يقدِّمُ التعازي لوالدي الذي لن يكونَ مستمعا للخطاب، وسيقولُ إنَّه فهمنا، وأنْ لا رئاسة مدى الحياة؛ وتقتضي العدالة أنْ يرحل، فيخرجُ بوجه أسود إلى الصحراء، وأنا أصيرُ موتا مضيئا على "فيسبوك"!
صحيفة الغد الاردنية